إن النزاهة والعفة خُلقٌ رفيع من أخلاق الإسلام، وأدبٌ من آداب أهل الإيمان، يجمع خصال الخير كلها، ويحمل من اتصف به على التخلق بمكارم المروءة ومعالي الأمور، وفي أول خطوة يراها المراقبون للشأن العراقي بالاتجاه الصحيح سيصل إلى بغداد (21) محققا دوليا للبدء بالتحقيق في ملفات الفساد المالي، التي استشرت في مؤسسات الدولة العراقية.
ويأتي هؤلاء المحققون بناء على مذكرة تفاهم وقعتها الحكومة العراقية مع الأمم المتحدة؛ وليس غريبا في هذا الموضوع أن حيتان الفساد واجهت هذه الخطوة الجريئة باعتراض كبير من قبل أحزاب سياسية عراقية، اذ اعتبرتها تشكيكا في القضاء والسماح بإهانة شخصيات مهمة في البلاد عبر التحقيق معها من قبل مختصين دوليين، وهذا ما يجعل طريقة الاعتراض مثيرة للسخرية، ومدعاة للعيش تحت قانون الغاب الذي يحمي الفاسدين وينهب أموال المساكين.
سيتكون فريق المحققين الدوليين، من خبراء غربيين، باستثناء عربي واحد من الأردن، وسيتم منحهم كامل الحرية في فحص الملفات والوثائق ومراجعة السجلات ووثائق الوزارات والبنك المركزي وديوان الرقابة المالية، وذلك على ضوء الاتفاق المبرم بين بغداد والأمم المتحدة، وسيتمكن الفريق من التحقيق مع المسؤولين الموجودين حاليا داخل البلاد وخارجها، بفضل صفة الفريق الأممية التي تخوله ذلك.
وستشمل التحقيقات العقود الوهمية التي أبرمت في فترة حكم رئيس الوزراء السابق وولي دم العراقيين وأموالهم، نوري المالكي، وعمليات تهريب الذهب والدولارات التي أنقذت الاقتصاد الإيراني من الانهيار، إضافة إلى غسيل الأموال، وستكشف التحقيقات أيضا حجم الفساد الذي سيزيل القناع عن الوجه الحقيقي للأحزاب الدينية الحاكمة، وقياداتها وأذرعها الاقتصادية" وهذا يعني أن مصير الـ(361) مليار دولار المفقودة من موازنات البلاد، سيكون أكبر تحد يواجهه المحققون الدوليون، مما يجعلهم يسيرون في حقل ملغوم، واللافت للنظر أن هذا المبلغ الكبير الذي يوازي ميزانية إحدى الدول الإقليمية المجاورة، بما يعادل موازنة خمسين عاما تعد مثالا للدول العصرية والمتقدمة، ما يجعلنا نلعن كل من أسهم وأسس نظام المحاصصة المقيتة وديمقراطية العهر السياسي الرذيل.
على مدار ثلاثة عشر عاما قادت الطبقة السياسية في العراق نهب المال العام بحثا عن النفوذ، وما إن بدأت أسعار النفط بالانخفاض أخيرا مؤثرة على موارد الدولة، حتى تلاشت كل الآمال في تحسن الوضع العام. فالجميع فاسدون من قمة الهرم إلى قاعدته لدرجة أن بعضهم ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك من أجل أن يحقق غاياته على حساب الفقراء والمساكين، ومن ذلك دخول الإرهاب إلى البلاد، الذي كان أغلبه منظما من قبل بعض رؤوس الفساد من أصحاب السلطة والنفوذ، فالفساد في العراق ليس كالفساد في غيره من الدول ولا يشبه بقية الفسادات، من حيث الكم والوزن ولا من حيث الفاعل ولا من حيث النوع والأسباب ولا حتى من حيث الموقف منه، فالفساد في العراق لم يعد حالة استثنائية وإنما بات قاعدة، يمارسه شذاذ الآفاق سلاحا في الحرب المحتدمة على الحكم.
إن أصحاب الفساد يغرفون من خزائن البلد في السراء والضراء، بدليل لأنه لا يمر يوم واحد في العراق دون أن يحمل أخبار فساد، تطال مسؤولين حكوميين وغير حكوميين. ولا تقتصر هذه المزاعم على التلاعب بالعقود والتوريدات الحكومية، لكنها تمتد أيضا لتشمل ما يتعلق بالصحة العامة وأمن المواطن، ولعل عقود فساد أجهزة كشف المتفجرات، خير برهان على أن غول الفساد أكبر من مفهوم الدولة، هذا المفهوم الذي تجلى في إقالة وزير الدفاع العراقي خالد العبيدي، الذي اعتبره المفسدون عملا ديمقراطيا رائعا تمارسه البرلمانات عند الضرورة. فقاعدة التوافق هي التي تحدد مصير أي قرار سياسي في مجلس النواب. وتجعل تأمين دعم لأي قرار، كحجب الثقة عن العبيدي أو إقرار قانون العفو العام اللذين صوت عليهما البرلمان في يوم واحد، سباقا سياسيا ومناسبة للمقايضات، فمن المؤكد أن وزير الدفاع عندما اتهم رئيس البرلمان وبعض النواب، أثار غضب حيتان المؤسسة التشريعية، التي لا تحظى برضا كبير عن أدائها في الشارع العراقي.
الشرق القطرية