في زمن العواصف والاهتزازات الكبرى الذي نعيشه يثير الشباب أسئلةً كانت تعتبر في الماضي من المحرمات، هذه الأسئلة إما أنها تحمل في طياتها تمرداً على الدين من أصوله وتحطيماً لكل المقدسات وكفراً بالله واليوم الآخر، وإما أنها تنطلق من نفس لا تزال تحافظ على إيمانها لكنها ترى ضرورة تجديد الفكر الديني وتنقيته مما علق به من مفاهيم تراثية حتى يظل قادراً على مواكبة التحديات واستيعاب أسئلة العقل فنربح العقل والإيمان معاً..
من الأسئلة المثارة سؤال يتعلق بصلاحية القرآن لزماننا ولماذا نظل مقيدين بتشريعات أنزلت لتنظيم شؤون زمان مختلف عن زماننا وكان للظروف الاجتماعية والثقافية وقت تنزله ظهور باد في موضوعاته، وهل ما كان يشغل الإنسان في صحراء الجزيرة العربية في القرن السادس الميلادي هو نفس ما يشغل إنسان القرن الحادي والعشرين في ألمانيا واليابان؟ يقول أصحاب هذا الرأي: نعم نؤمن أن القرآن منزل من عند الله، ولكننا لا نرى أن تشريعاته تحمل سمة الاستمرار في ظل تغيرات جذرية شهدتها المنظومة الفكرية والاجتماعية والسياسية البشرية، القرآن يتحدث عن ملك اليمين ولم يعد في زماننا ملك يمين، ويتحدث عن رباط الخيل ونحن في زمن الطائرات والصواريخ، ويتحدث عن بيوت النبي ونساء النبي وهي قضايا وقتية لا تهم الناس خارج تلك البيئة، أليست هذه أدلةً كافيةً بأن صلاحية القرآن قابلة لإعادة النظر؟
في البداية، لست ضد مبدأ النقاش العلمي في هذه القضية، وأفهم أن الدين والإيمان معان أوسع من القرآن، والقرآن ذاته يذكر لنا أن تنزله يأتي في سياق أكبر من هداية الناس وحثهم على تحقيق معان مثل التذكر و التقوى والشكر، لذلك يحدث من حيث المبدأ أن أناساً لم يبلغهم القرآن ولكنهم يدخلون دائرة النجاة وتشملهم الرحمة الإلهية لأنهم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، كما أن القرآن ذاته يؤكد أن هدفه تحقيق الهدى و لو جاء هذا الهدى من خارجه: "قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين"، صحيح أن التفسير التقليدي لهذه الآية بأنها عرض تعجيزي، لكن هذا لا ينفي أنها تحمل قيمةً حواريةً انفتاحيةً، فلو توصل البشر بالتجربة وبمعرفة آيات الله في الآفاق والأنفس إلى صيغ تحقق هدىً وعدلاً وقسطاً أكبر مما جاء في بعض التشريعات التفصيلية في القرآن فإن القرآن ذاته يدعوهم إلى ما هو أهدى وأقسط وأقوم..
لكن التفكير العلمي يقودنا إلى أنه لا يوجد مبرر لتجاوز القرآن فالكتاب لا يزال مصدر ثراء روحي وأخلاقي وعملي بعد أربعة عشر قرناً من تنزله، وإن اشتمل في بعض مواضعه على آيات تظهر خصوصية زمان نزوله إلا أن السمة العامة له هي أن معانيه حية متجددة.
السؤال عن صلاحية القرآن ينطلق من فرضية خاطئة وهي أن القرآن في المقام الأول كتاب تشريعي يشبه الدساتير، وهو ما ينافي حقيقته لمن يتدبره، فالقرآن ليس كتاباً قانونياً بالأساس بل هو كتاب روحي وأخلاقي يلجأ إلى القصة والإيحاء والرمز والاستعارة في سبيل الوصول إلى القلوب والأرواح، وهدفه تحقيق طمأنية القلب وتزكية النفس وانشراح الصدر وتثبيت الفؤاد، فإن جاز المناقشة في بعض التشريعات التفصيلية بتغير الظروف وفي ضوء فهم عللها فإن المعاني الروحية والأخلاقية التي تحتل الحيز الأكبر من القرآن ستكون خارج دائرة هذه المناقشة لأنها باقية ببقاء الإنسان.
صحيح أن هناك تطورات اجتماعيةً وثقافيةً طرأت على التجربة الإنسانية خلال القرون الأخيرة، لكن الصحيح أيضاً أن الإنسان ليس تغيراً دائماً، فهناك جوهر ثابت في الإنسان لا يتأثر بتعاقب القرون، الإنسان في القرن الحادي والعشرين هو ذات الإنسان في عصر الغابة والكهف، يحمل نفس القابلية للسمو والعطاء أو للتردي والشقاء، يسمو في معارج الأخلاق الحميدة من الصدق والوفاء والإيثار والرحمة والحب والإحسان، أو يهوي في دركات الكذب والخيانة والبخل والقسوة والكراهية والإفساد، تتغير الآلات فبعد أن كان الإنسان يقتل بفك حمار صار يقتل بالقنبلة والصاروخ لكن المنطلق النفسي لم يتغير، كان القوي يسرق من الضعيف بفجاجة تحت تهديد قوة العضلات، لكن لصوص العصر الحديث صارت لهم دول وسياسيون يرتدون بذلات أنيقةً ويطلون على الناس بابتسامة عريضة ويلبسون في أيديهم قفازات حريريةً ثم يمدون أيديهم إلى جيوب الناس وثرواتهم ويسرقونهم، الحضارة جعلتنا أكثر أناقةً في مظاهرنا لكن الجوهر لم يتغير..
ما يفعله القرآن هو أنه يعالج الثابت الإنساني، فهو يأمر بالعدل والإحسان وفعل الخيرات والصدقة والمعروف وينهى عن الظلم والبغي والإفساد وأكل أموال الناس بالباطل، وهذه جميعها أوامر ونواه قيمية لا تتأثر بتغير الأدوات والآلات..
ما هي القضايا الأكثر إشغالاً لمساحة القرآن؟
القرآن يركز كثيراً على قضية التوحيد والشرك وهي معان روحية تتعلق بطمأنينة القلب وتحرره من تناقض الغايات، ويحيي في النفوس الإيمان بالله واليوم الآخر لتعزيز رقابتها الذاتية، ويكرر كثيراً في ذم الطغيان والبغي والظلم والإفساد في الأرض، يستفز المستضعفين لرفض الخنوع للمستكبرين، يستفز في النفس البشرية كرامتها وقوتها حتى لا تسمح لأحد بسلبها روحها إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، يذكر الإنسان بفرديته حتى لا يضيع جوهره في زحام القبيلة والمجتمع، يذم النفاق واهتزاز النفس وميوعة الشخصية ويذم أكل أموال الناس بالباطل وحرمان اليتيم والمسكين، ويذم استغلال الدين لممارسات غير أخلاقية في سورة التوبة مثل الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ومثل الذين اتخذوا مسجداً ضراراً، ويذكر قصص الأقوام التي ظلمت نفسها فكانت عاقبة أمرها خسراً، يذكرنا بالصلاة وذكر الله لراحة قلوبنا المتعبة في مسارات الحياة ويحثنا على المسابقة في فعل الخيرات وعمل الصالحات وينبهنا إلى القانون الأخلاقي الذي يضبط الحياة فمن عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها، والبغي مردود على أصحابه والمكر السيء لا يحيق إلا بأهله وجزاء الإحسان هو الإحسان، هذه القضايا تحتل المساحة الأكبر من حيز القرآن، وكما هو واضح فهي قضايا متجاوزة لخصوصية الزمان والثقافة، فالمشكلات الأخلاقية الإنسانية واحدة.
هناك الجانب الشعائري في القرآن ويحتل مساحةً أقل لا تتجاوز عشرات الآيات مثل الصلاة والصوم والحج والأضحية والوضوء والتيمم، هذه الشعائر تمثل الوحدة الروحية والاجتماعية لأمة من الأمم، والشعائر محايدة إزاء تغير الزمن، فلكل أمة مناسكها وطقوسها التي تحافظ عليها لآلاف السنين دون أن يؤثر تمسكها بها بفاعليتها المعاصرة لأن هذه التقاليد تحمل قيمةً رمزيةً بالإضافة إلى قيمتها الروحية توحد الأمة وتعطيها هويتها وتجمع رابطتها.
يسهل ملاحظة الأسلوب التجريدي في القرآن، فالقرآن مقتصد جداً في ذكر التفاصيل الزمانية والمكانية سواءً المتعلقة بزمن نزوله أو بأزمان قصص الأمم السابقة، القرآن لا يذكر بالتفصيل أسماء الأعلام مثل الصحابة و كفار قريش وأسماء المدن والمغازي إلا في مواطن نادرة، ولا يذكر الحقب التاريخية ولا التفاصيل المكانية في معظم قصص الأنبياء والأقوام السالفة، ولهذا دلالته، فالقرآن يريد منا التركيز على موطن العبرة ، فهو ليس كتاب حشو معرفي، ولو أن القرآن يتحدث عن قريش مثلاً بأسمائهم و قرأه اليوم رجل صيني أو برازيلي، لقال: ما لنا ولهذا الكتاب الذي يقص علينا حكايات تاريخيةً من بطن الصحراء، لكن القرآن بتركيزه على الأفعال أكثر من الأسماء يقدم لنا معان حركيةً متجددةً، فالقرآن يستعمل قوالب مرنةً تتسع لكل من تشابهت فيهم الصفات النفسية والقلبية، فالذين كفروا تشمل في الماضي أبا جهل وأمية بن خلف، و تشمل اليوم كل جبار عنيد: "تشابهت قلوبهم"، و "الذين في قلوبهم مرض" تشمل كل نفس تعاني من اهتزاز الشخصية و تقلب المواقف في أي زمن: "وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون".
حين يستعرض القرآن قصص الأقوام السالفة ويخلد أقوالهم فإن هذه الأقوال تحمل قيمةً تجريديةً تتعلق بالنفس البشرية لا بخصوصية الزمن الذي شهد القصة، فمشكلات الأقوام متكررة ومتشابهة مثل تكذيب الآيات والعناد واحتقار الضعفاء: "أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا" وطبقية المجتمعات: "وجعل أهلها شيعاً"، والحسد ونبذ العهود والانغلاق الفكري والعمى الروحي والترف والإفساد والاقتتال: "قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين".
حتى في التفاصيل الظرفية التي يوردها القرآن مثل عاد والأحقاف وثمود ومثل حنين والأحزاب فهي لا تنال من المعنى التجريدي العام في المعالجة، فإن كان الإنسان المعاصر لا يهتم كثيراً بقصة قبيلة عاشت قبل آلاف السنين في الصحراء ثم انقرضوا فإنه سيستفيد من المعنى الأخلاقي الذي تخلص إليه القصة، مثل قول قوم عاد: "من أشد منا قوةً"، فهذه المقولة تصور مرضاً نفسياً هو الاغترار بالقوة يمكن أن يصيب الناس في أي زمان و في أي مستوىً بدءً من المستوى الفردي وانتهاءً بالمستوى الدولي في سلوك الدول العظمى مثل روسيا وأمريكا، وإذا كانت غزوة حنين مجرد حدث أعقبه آلاف الحوادث في صيرورة التدافع البشري فإن القيمة الخالدة التي يبرزها القرآن في سياق معالجته لها يتمثل في أن الاغترار بالكثرة يؤدي إلى التراخي والهزيمة.
لكن ماذا عن خصوصيات النبي التي يفصلها القرآن لنا، وما صلاحية الحديث عن بيوته وأزواجه وعدم رفع الصوت في حضرته لعصرنا الحديث؟
يتبع...