المشهد السياسي في المنطقة اليوم متسارع إلى حد الذهول، ومتداخل في مصالحه، وتحالفاته، وأجنداته؛ لدرجة يصعب معها التنبؤ بما ستكون عليه النهاية، أو الغلبة والنفوذ، وهو أيضا -هذا المشهد- مختلف عن أحداث وحروب وأزمات سابقة، حيث كانت أمريكا هي الخصم والحَكم في المنطقة، وتدير الصراع بثقافة لا غالب ولا مغلوب، وبالتالي لم يتجرأ أحد على الخروج عن النص، أو محاولة تعديل أو تغيير محتواه، أو حتى التوقف أو الاعتذار عن الاستمرار فيما يتم الاتفاق عليه حتى لو كان من تحت الطاولة!أما الآن فالمنطقة تشهد تحالفات جديدة، وطموحات وأمنيات دول بالتمدد، والتدخل في شؤون الآخرين؛ مستغلة التخاذل الأمريكي عن حلفائها في المنطقة، وحالة الارتباك الواضحة في قرارها من التطورات الجيوسياسية، خاصة في دول «قوس الهلال الجديد» العراق وسوريا ولبنان، وما نتج عنها من «فوضى خلاّقة» لم تبق ولم تذر أحدا؛ حتى من حاول أن ينأى بنفسه فشل بانحيازه مع أحد قوى الصراع.
الشرق الأوسط الذي كان هدفا لدول كبرى ولا يزال وسيبقى على هذه الوتيرة من الصراع الأبدي؛ يواجه اليوم خطرا أكبر من محاولة الفوضى إلى حالة من الانقسام وحتما التقسيم، وبالتالي التبعية المطلقة للتحالف الإقليمي الجديد بقيادة روسيا وذراعيها في المنطقة إيران وتركيا، وغطاء إسرائيلي محكم، وما قد يسفر عنه من تقاربات سياسية مع دول أخرى، وهي أحلاف تتشكّل في واقع جديد جمعتهم المصالح، وفراغ المرجعية، والحرب الطاحنة التي تسرّب معها الإرهاب كوسيلة للبقاء، ومشروعية التدخل، وابتزاز ومساومة الآخرين.
التقارب الروسي التركي الإيراني مثير في توقيته، وأجنداته، وتطلعاته، وأيضا مستوى التنسيق العسكري لحسم الصراع في المنطقة، ولكنه في واقعه ليس على مسافة واحدة، أو رؤية مشتركة متطابقة، وتحديدا من أهم قضاياه المستعصية عن الحل، وهي القضية السورية، فالروس لديهم هدف عسكري بالبقاء في المياه الدافئة (البحر المتوسط)، وسياسي بعدم التخلي عن حلفائها، واقتصادي بإعادة تلميع صورة السلاح الروسي وتسويقه، بينما إيران لديها أهداف استراتيجية في ضم سوريا إلى العراق ولبنان في مشروع تمددها الطائفي، وتصدير ثورتها، وإعادة حلم امبراطورية فارس، أما تركيا بعد الانقلاب الفاشل هرولت مسرعة إلى البحث عن مخارج طوارئ لعزلتها، وتوجهت بإرادتها إلى روسيا وإيران وقبلهما إسرائيل، ولهذا جاء خطابها السياسي بعد الانقلاب مرتبكا وانتقائيا في مسائل فرعية من القضية السورية، فهي مع الروس حول مستقبل الأسد، ومع توجهات إيران بعدم قيام دولة كردية لا في العراق ولا على الحدود التركية، ولكنها مع ذلك لا تزال في سباق مع الإيرانيين لكسب النفوذ في المنطقة، وأداء دور الضامن الإقليمي الجديد.
تركيا لن تتخلى عن مصالحها مع دول الإقليم، ولن تضحّي بعلاقاتها ومواقفها لخدمة ملالي إيران أو قياصرة الروس، وهي تدرك أن ما يفرقهما أكثر مما يجمعهما من مصالح، وبالتالي كدول خليج علينا ألا نتخلى أيضا عن تركيا بسهولة في هذا التوقيت أو غيره، وإنما العقل والحكمة السياسية أن تبقى العلاقات الخليجية التركية على المستوى ذاته من التعاون المشترك، والثقة المتبادلة، والعمل معا ضمن التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب، وتحقيق أمن واستقرار المنطقة، والتصدي للمشروع الإيراني الأخطر بإرهابه وطائفيته المسمومة، وعلينا أيضا أن ننتظر أكثر ما تسفر عنه المواقف التركية الجديدة بعد الانقلاب، ليس فقط لنحكم على ما يجري، وإنما لنتحرك كدول خليج في الاتجاه الصحيح.
الرياض السعودية