14 جانفي وصدمة الحدث "اللامتوقّع" (3)
كان 14 جانفي حدثا مفصليا في تاريخ
تونس، وقد اختلف الفاعلون الجماعيون والمتخلون في الشأن العام في تحديد طبيعته: هل نحن أمام "ثورة" حقيقية فاجأت النظام وستنجح "تراكميا"، ومع مرور الزمن في إحداث قطيعة فعلية مع الموروث الاستبدادي، ومع منوال التنمية الاقتصادي والاجتماعي الفاشل الذي هيمن على تونس منذ انقلاب 7 نوفمبر، أم إننا في محضر "انقلاب" داخل النظام، أو إننا أمام مجرّد تمرّد على السلطة نجح في القضاء على رأسها، مع فشله في تحقيق أبسط مطالب الثورات وأكثرها إلحاحا: إعادة توزيع السلطة والثروة. ورغم هذا الاختلاف في التوصيف، فإنّ تونس قد عاشت بعد رحيل بن علي مرحلة "مفصلية" احتاج فيها الفرقاء إلى إدارة الاختلاف سلميا، وبعيدا عن الاستقواء بأجهزة الدولة القمعية، أو بالخارج لفض النزاعات السياسية، وذلك قصد إنجاح تجربة الانتقال الديمقراطي.
لقد أنتج 14 جانفي وضعية تاريخية غير مسبوقة منذ بناء الدولة الوطنية التونسية هروب رأس النظام وانعدام "رأس بديلة" له، تكون محلّ توافق –عفوي أو قسري-من طرف القوى الأساسية داخل المجتمع السياسي أو المجتمع المدني. كان غياب"زعامة" فردية أو جماعية "للثورة " عاملا موضوعيا "محايدا"، وظفته القوى الثورية أو الثورية المضادة تبعا لاستراتيجياتها في التحرّر أو في إعادة إنتاج نظام الفساد الاقتصادي والاستبداد السياسي. أمّا العامل الثاني الذي دخل على بنية المشهد السياسي العام، فهو الحضور الإسلامي الذي غزا المشهد المجتمعي عبر تعبيراته الرمزية-البصرية، أو عبر تعبيراته الجمعياتية والحزبية. ولم يعد الوجود الإسلامي "موضوعا"-كما كان منذ بناء الدولة الوطنية- موضوعا للصراع أو التفاوض أو التواطؤ بين النظام و"هوامشه" التي تُسمّى معارضة قانونية، ولكن أصبح الإسلاميون-خصوصا حركة النهضة- فاعلا سياسيا أساسيا، وذا وزن انتخابي، وعمق شعبي لا يمكن إغفاله عند بناء أية سياسات محلية أو إقليمية أو دولية تهم الشأن التونسي العام.
لا شك أن الثورة التونسية قد وضعت النظامين السابقين (النظام الدستوري البورقيبي والنظام النوفمبري التجمعي) موضع تساؤل، وذلك من جهة مدى تحقيقهما واقعيا لمفهوم المواطنة وما يرتبط به من حقوق اجتماعية واقتصادية وسياسية ودينية. ونحن نذهب إلى أنّ تونس قد عرفت بعد ثورتها-وخاصة بعد انتخابات أكتوبر 2011 التأسيسية- جملة من الاصطفافات والصراعات الثقافوية-الهووية، بل جملة من الارتدادات النسقية إلى مربّع 13 جانفي 2011(أي مربع المحاولة الأخيرة لإنقاذ النظام النوفمبري مع تعديله جزئيا)، وهو ما يجعل من التجاوز الواقعي لوضعيتي المواطنة المشروطة (البورقيبية)، ومادون المواطنة (النوفمبرية) أمرا صعبا، بل أمرا مستحيلا على الأقل في المدى المنظور.
إنّ المواطنة التامة، تلك المواطنة التي تكفل الحد الأدنى من الحقوق والحريات الأساسية غير القابلة للانتكاس أو للتلاعب السياسوي، قد أصبحت بعد انتخابات 2011 أفقا مستحيلا بسبب هيمنة المقاربات الثقافوية، وبسبب عجز كل الفاعلين الجماعيين-بحكومتهم ومعارضتهم- عن الخروج من منطق النظام الدستوري-التجمعي، ورمزياته وخياراته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية الكبرى. وقد أدت مقولة"النمط المجتمعي التونسي" دورا مركزيا في تعطيل الانتقال الديمقراطي وفي منع حصول أي تقارب استراتيجي بين الإسلاميين والعلمانيين، بل أدت تلك المقولة دورا محوريا في إعادة إنتاج المنظومة النوفمبرية، مع تعديلها جزئيا من جهة آليات الشرعنة والقاعدة الاجتماعية-الجهوية.
ولمّا كان الفكر الذي أرسى دعائم "المواطنة المشروطة" و"ما دون المواطنة" هو أساسا الوعي الحداثوي –أو الذي يستمد شرعيته من انتمائه الحداثي، حتى عندما تكون ادعاءاته الحداثية صورية ولا محصول لها واقعيا-، فإننا سنكتفي في هذا المقال ببيان أهم "الخرافات" التي تحول دون تجاوز الزمن الدستوري-التجمعي وتجسيداته المأزومة والهشة للمواطنة. ولا شك في أنّ النخبة الحديثة قد احتاجت لبناء سردية التحديث والدفاع عن مكتسباته (الحقيقية أوالمتخيلة)، إلى جملة من "الخرافات التأسيسية" اعتمدت عليها في التعامل مع جميع المواطنين، وخاصة مع الإسلاميين، بحيث ولّدت نوعا من "العقيدة العلمانية" النابذّة لكل الحركات الإسلامية بصرف النظر عن وزنها الشعبي أو شرعيتها الانتخابية.
مبدئيا يمكننا القول إنّ "العقيدة العلمانية" التي تدافع عن "النمط المجتمعي التونسي" هي تعبير عن مجموعة من المشاعر والمصالح والتحيزات اللاواعية التي تصاغ صياغة فكرية صدامية ومتناقضة ذاتيا، وهي صياغة يحكمها الاستعلاء المعرفي والتحيز الإيديولوجي والمحافظة السياسية التي تحول دون أي قطيعة حقيقية مع الزمن الدستوري التجمعي. وبصرف النظر عن ادعاءاتهم الذاتية، يعمل الكثير من الحداثيين –على اختلاف أنساقهم الإيديولوجية الأصلية- على تعطيل أي تغيير حقيقي في مستوى إعادة توزيع السلطة والثروات المادية والرمزية، معتمدين على مجموعة من "الخرافات التأسيسية" التي مدارها ثلاث خرافات مركزية هي:
1- خرافة الاستثناء الإسلامي، أي المصادرة على استحالة التوفيق بين الإسلام في ذاته وبين الديمقراطية ومنظومة حقوق الانسان، وهي استحالة يتم سحبها -انطلاقا من هذه المصادرة -على كل الحركات الإسلامية التي تُثبت بصورة نهائية خارج أي أفق ديمقراطي واقعي أو ممكن، أي تُثبّت في صورة الحركات الخطيرة، التي يجب محاربتها ولو اعتمدنا السيناريو المصري في الحالة القصوى.
2- خرافة الاستثناء التونسي أو النمط المجتمعي، أي تفوّق تونس على جوارها العربي واختلافها الجذري عن فضائها الإسلامي واستعلائها على بعدها الإفريقي، ولا شك في أن الاستثناء/التفوّق التونسي هو بُعد"مخيالي" أقرب إلى المعطى الإيماني منه إلى أيّة وقائع اجتماعية أو معطيات موضوعية، قابلة للإحصاء المقارني المضبوط بأرقام دقيقة.
3- خرافة "العائلة الديمقراطية" التي تفترض بصورة نهائية استحالة إدراج أي حزب إسلامي داخلها، والعائلة الديمقراطية هي مجموعة من الأحزاب والإيديولوجيات التي تذوّب اختلافاتها المرجعية، انطلاقا من القاعدة الحداثية الموهومة، وانطلاقا من التعارض الماهوي والنهائي مع الحركات الإسلامية رغم أنها جميعا تعتمد على تراث سياسي كلياني واستبدادي:بورقيبي أو قومي أو يساري، ورغم أن من يدّعون الانتساب للعائلة الديمقراطية هم أولى الناس بإثبات حصول هذه الصفة فيهم، خاصة عندما لا تكون إرادة الناخبين في صالحهم.
ولعلّ "أزمة "هذا العقل ستبدو جليّة إذا ما حاولنا إحراجه بالتساؤلات التالية التي قد توقظه من"سباته الدوغمائي" غير المعترف به : هل يعترف هذا العقل بالحق في إعادة التفكير في رسم الحدود بين الدين والسياسة من خارج المنظور "اليعقوبي"؟ وإلى أي حدّ يعبّر هذا التيار الفكري عن حداثته و "تاريخيته"، عندما يرى محصول اللائكية اليعقوبية "اختيارا نهائيا" لا يقبل المراجعة والاستئناف، (في حين أنه لا يكلّ ولا يملّ في طلب التجديد والمراجعة والاجتهاد و"التنسيب" و"التسامح" والابتعاد عن الدوغمائية من خصومه الإسلاميين خاصة)؟ وماذا لو اختار الشعب بإرادته الحرّة نموذجا ثقافيا يختلف عن الموروث اليعقوبي أو يعارضه، هل سيُعتبر ذلك مظهرا من مظاهر "الشعبوية" والوعي الزائف والتهديد الجدي "للنمط المجتمعي" و"الاستثناء التونسي" وغير ذلك من التوصيفات التي لا يخلو منها إرهاص للانقلاب على أي نتيجة، لا تُعجب سدنة اللائكية حيثما كانوا؟ ومتى يستطيع هذا التيار الفكري الحداثوي تجاوز المرحلة التي لم يكن يرى فيها"خارجا مطلقا" له غير التيارات الدينية، بحيث تصبح تلك المرحلة التي كان يقبل التحالف مع الأنظمة "الرجعية"، طالما حافظت على المشترك القيمي اللائكي مهما كانت "صورية "ذلك المشترك، أو كلفته في المستوى السياسي أو الثقافي أو الاقتصادي أو "الإنساني" مجرد جزء من التاريخ السياسي التونسي؟
ليست "المواطنة التامة" إلاّ أفقا مفهوميا و مؤسّسيا، وإمكانا تاريخيا، وليست المواطنة التامة واقعة سوسيولوجية متعيّنة أو ضرورة تاريخية لا مهرب منها. وذلك لأنه لا يمكن الحديث عنها من منظور تراثي ما قبل حداثي- باعتبار المصطلح الإجرائي، عندها سيكون مصطلح الرّعية ودوره في تشكيل الهوية الجمعية على أسس دينية مذهبية"شبه مغلقة"-، كما لا يمكن الحديث عن مواطنة في الدولة "القطرية" التي أعقبت الاستعمار، إلاّ باعتبارها مفهوما "وظيفيا" يتمّ استغلاله من طرف الحكّام للتغطية على ممارسات لا علاقة لها باستحقاقات المواطنة "الأساسية" - أي الحقوقية الفردية والجماعية في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية-. ولا شكّ أننا لا نملك لتونس نموذجا جاهزا للانتقال الديمقراطي، وما سوف يُكرّسه لمعنى المواطنة، بل إنّ كل ما نملكه هو إمكان تاريخي نادرا نستطيع لو أحسنّا إدارته أن نُقدّم للعالم نموذجا جديدا للتعايش الممكن بين العقلين الديني والحداثي، من غير أن نضطرّ إلى إلغاء أحدهما أو تدجينه (بمنطق الإكراه السلطوي أو بآلية الانقلاب على إرادة الناخبين).
إنَّ هذا النموذج "المفترض" للمواطنة ليس مجرّد معطى ثقافيا أو قانونيا، (كما أنه لن يكون نتيجة حتمية لأية ضمانات"صورية"حتى ولو تضمّنها الدستور)، بل هو نتيجة معطيات اقتصادية واجتماعية وطنية وإقليمية وكونية متضافرة، ينبغي على الفاعلين السياسيين والنخب عندنا أن تحاول صياغتها في "مشروع توافقي". ورغم ثقتنا بأنّ هذا التوافق لا يمكن أن يشمل "غلاة" الإسلاميين ولا متطرّفي اليعقوبية ولا أن يُرضيهم، فإننا نؤمن بأنّ وظيفة التوافق الأساسية ليست هي القضاء على كل معارضة ممكنة له، بل منعها من أن تأخذ مركز المجال العام، وأن تتحكّم في صيرورته التاريخية. وهو ما يعني أنّ علينا أن نقبل حتى بأعداء التوافق وسدنة الحقائق المطلقة يمينا ويسارا-ماداموا لا يرفعون السلاح في وجه الدولة-، لكن مع العمل على زيادة الوعي عند المواطنين كافة بالكلفة المادية والنفسية والاقتصادية التي قد يؤذن بها أي انحراف نحو الأطروحات الكليانية مهما كان نوعها. ولتحقيق ذلك لا بدّ من أن نؤمن بالطبيعة"التاريخية" والتراكمية للوعي المدني ولاستحقاقات التعايش بين "الأضداد". ذلك أننا لا نملك الكثير من الخيارات "الاستراتيجية لتجّنب حالة عدم الاستقرار أو "حرب الكل على الكلّ"، التي تطل علينا من أكثر من فضاء عربي مجاور أو بعيد.
إنّ هذا المشروع "المعرفي" هو من أوكد المهام التاريخية لنخبتنا المثقفة مهما اختلفت منطلقاتها الفكرية.. ولكنها مهمّة تحتاج إلى "شجاعة" كبيرة قد لا يملكها المسيطرون على "قطبي" الصراع الإيديولوجي عندنا، وذلك لما قد يكون لها من كلفة نفسية ووجودية وانتخابية هم عاجزون عن تحمّلها، مثل عجزهم عن قبول انبثاق"موقع" ثالث للخطاب السياسي يتجاوز"جدليا" الثنائية المغذية لرهاب الإسلام والعلمانية، أي يتجاوز "خرافة" التناقض الماهوي والضروري بين محددات التدين وضوابط المواطنة في الدولة المدنية الحديثة.