بصرف النظر عن المعاني المتباينة التي قد تحصل في ذهن المتلقي عند سماع تعبير "الإسلام
التونسي"، فإنّ الوظيفة السياسية التي أداها هذا المفهوم قبل 14 كانون الثاني/ يناير 2011 وبعده قد زادت في التباسه، بل في جعله مفهوما "مشبوها" عند الكثير من التونسيين الذين لا يتماهون إيديولوجيا مع الجهات "الحداثية" التي تحرص على توظيف مقولة "الإسلام التونسي" في صراعها ضد "
الإسلام السياسي" خاصَةَ.
لو عمدنا إلى استقراء الاستعمالات المتداولة لتعبير "الإسلام التونسي" لقلنا إنه عند المنافحين عنه من النخب الحداثية ذات التوجه العلماني: "نمط من التدين العفوي والممأسس، أو صور فردية وجماعية من العلاقة بالمقدس، وهي صور تعكس الخصوصية الثقافية للتونسيين ولا تتعارض مع الفلسفة السياسية الحديثة للدولة-الأمة، ولا مع التشريع الوضعي الذي يتحكم بتنظيم المجالين العام والخاص فيها".
بعد الثورة التونسية، كانت أهمية تعبير "الإسلام التونسي" تزداد طرديا مع تكثف الصراعات الثقافوية والسجالات حول الهوية بين الإسلاميين والنخب العلمانية بمختلف أصولها الإيديولوجية التي ذُوِّبت في هوية سياسية جامعة هي "العائلة الديمقراطية". وقد كان مفهوم "الإسلام التونسي" محوريا في بناء جملة من التقابلات الماهوية والمطلقة، تلك التقابلات التي سعت النخب الحداثية إلى تكريسها في إطار صراعها "السياسي" المصاغ بمفردات وجودية مع نمط آخر من الإسلام ألا وهو "الإسلام السياسي"، أو التعبيرات الدينية الإخوانية والسلفية. ولم تدخر تلك النخب العلمانية جهدا في تحذير المواطنين التونسيين -وخاصة النساء- من مخاطر "الأسلمة" التي تحملها خطابات الإسلام السياسي المهددة للسلم الأهلية و"للنمط المجتمعي التونسي".
لو أردنا أن نُحدد الخاصية الأهم لتعبير "الإسلام التونسي" لقلنا إنها طبيعته السياسية بامتياز. فهذه المقولة سابقة على الثورة ومرتبطة باستراتيجيات التسمية المعتمدة من لدن السلطة "الوطنية" في إطار سعيها إلى الهيمنة على الشأن الديني وبناء خطابات مستلحقة بخطاب "النظام"، بل بخطابات الزعيم "الملهم" باعتباره المرجع النهائي للمعنى بمختلف تجلياته السياسية والثقافية والدينية وغيرها. وبحكم ضيق المساحة النصية في مقال مفرد، فإننا سنورد أهم الخصائص التداولية لمفهوم "الإسلام التونسي" وذلك في شكل نقاط مختزلة، على أمل أن تكون سببا في إثراء الحوار العام في تونس وغيرها من الفضاءات السوسيو-ثقافية المشابهة:
- من الناحية الابستيمولوجية، فإنّ "الإسلام التونسي" هو تعبير ملتبس، ويمكننا أن نقول إنه يتمتع أقرب إلى المجاز أو الاستعارة منه إلى التمتع بسمات "المفهوم" أو "المصطلح" بالمعنىين الفلسفي والسّوسيولوجي. ولعل غياب التعريف هو جزء من الفاعلية التداولية لهذا التعبير لأن من يُوظفونه سيعطونه معان متعددة -بل متضاربة أحيانا– دون الحاجة إلى أي تعليل أو تفسير للانزياح عن الدلالة الأصلية. ولكن غياب التعريف لا ينفي التقاء هذه النخب حول ما يمكن أن نسميه بالتعريف بالسلب (أي إمكان تعريفها لنفسها انطلاقا من التضاد مع نمط التدين السلفي-الإخواني، أي حركات "الإسلام السياسي" بأطروحاتها الفقهية ذات البنية التراثية).
-من ناحية فلسفة التاريخ، يعكس "الإسلام التونسي" فلسفة تاريخية تنطلق من اعتبار التاريخ الغربي تاريخا كونيا لا تاريخا "خصوصيا"، وهو ما يجعلها تصادر على حتمية أن يسلك الإصلاح الديني في تونس وفي جميع ديار الإسلام تلك المسارات التاريخية التي عرفها في الغرب والتي انتهت به إلى "نزع السحر عن العالم"، و"علمنة الفضاء العام"، و"فصل الدين عن الدولة". وبصرف النظر عن القيمة التفسيرية المشكوك فيها لهذه الفلسفة التاريخية المستلبة أمام المركز الغربي، فإنّ من أكبر أسباب عداء النخب الحداثية للحركات الإسلامية هو أنّ تلك الحركات تنطلق من فلسفة تاريخية مباينة ترفض "مركزية الغرب" وتجادل باستحالة إسقاط تاريخه على مجمل التواريخ الخصوصية لباقي الشعوب بما فيها الشعوب العربية الإسلامية.
-من الناحية السياسية، فإن "الإسلام التونسي" قد لعب دورا مركزيا في تذويب الخلافات الفكرية العميقة بين مختلف العائلات الإيديولوجية الحداثية (البورقيبيين القُطريين والقوميين واليساريين) في مختلف مراحل الجمهورية الأولى بلحظتيها الدستورية والتجمعية، كما أنه قد أمد مكونات "العائلة الديمقراطية" بعد الثورة بورقة هامة في صراعها ضد "الإسلام السياسي". فمفهوم"الإسلام التونسي" يمنع أي تطبيع مع الإسلاميين اللهم إلا إن فقدوا خصوصيتهم وتماهوا مع الفهم الحداثي للمسألة الدينية وهو ما يهدد "علة وجودهم" ذاتها. كما أن مقولة "الإسلام التونسي" قد كانت ومازالت ورقة ضغط على
حركة النهضة خاصة وذلك من جهة إلجائها إلى تكييف خطابها مع تمثلات النخب العلمانية للدين ولمكانته المفترضة في إدارة الشأن العام.
- من جهة العلاقة بالتراث الأصولي والفقهي، يُمكّن "الإسلام التونسي" النخب الحداثية من تحييد ذلك التراث وإبعاده عن دائرة التأثير في المجال العام، وهو ما يُعتبر امتدادا لاختيارات النظام البورقيبي منذ الاستقلال عن فرنسا. فرغم أن مقتضيات الصراع ضد الحركات الإسلامية قد فرضت على النخب العلمانية الانتساب إلى رمزية الزيتونة والتغني بخصوصيتها الدينية في مواجهة الوافدَين السلفي والإخواني، فإن ذلك الانتساب ظل صوريا لأن تلك النخبة لم تكن تطرح على نفسها بصورة جدية إحياء التراث الفقهي المالكي أو الكلامي الأشعري أو الصوفي الطرقي، اللهم إلا في أشكال احتفالية وفولكورية وبحثية لا علاقة لها بما تطرحه المقالات الفقهية والكلامية والصوفية في أصولها الأولى بعيدا عن التوظيفات السياسية المعلمنة.
-من جهة العلاقة بالمفاهيم الحداثية، مثّل "الإسلام التونسي" بالنسبة للنخب الحداثية صورة "مأمثلة" Idéalisée للتدين المتسامح وغير المتعارض مع مقتضيات الانتظام السياسي الحديث ولا مع منظومة حقوق الإنسان الكونية. كما كان "الإسلام التونسي" جزءا من الأساطير المؤسسة للدولة-الأمة بعد الاستقلال، تلك الأساطير التي يمكن ردها جميعا إلى رحم أسطوري أول هو "النمط المجتمعي التونسي". إن أشكال التدين التي تختزلها تعبيرة "الإسلام التونسي" لا تتماهى واقعيا مع تنظيرات الفقهاء والمتكلمين القدامى، كما أنها لا تتطابق مع خطابات الإسلام السياسي بل تُوظف أساسا لتجاوز البعد الُحكمي في الدين، أي لترسيخ التصادم بين "القانون الوضعي" و"الشريعة الإسلامية". ولكنّ الادعاءات القيمية الحداثية- كالأخذ بمفاهيم التسامح، والغيرية، والقبول بالاختلاف، وتعدد الحقيقة وغير ذلك- تتهاوى واقعيا أمام رغبة ممثلي"الإسلام التونسي" في احتكار الحقيقة الدينية، و"وصم" سائر الخطابات الدينية المنازعة بالاغتراب عن البيئة التونسية أو بالتطرف أو حتى بالإرهاب.
- من جهة العلاقة بالوعي الديني الجمعي، يغلب على مواقف النخب الحداثية الانحياز إلى التجارب "الطرقية" في أشكالها الأكثر إيغالا في الخرافة والتخلف-على عكس ما كان منتظرا منها بحكم ادعاءاتها "العقلانية" و"التقدمية" و"التنويرية"-، وهو موقف ينتمي إلى ما يمكن تسميته بثقافة "المضاددة". فبحكم عداء الإسلام السياسي السلفي والإخواني للتصوف الشعبية، وجدت النخب الحداثية في هذا التصوف شكل التدين الأفضل لمواجهة أشكال التدين التي تطرحها الحركات الإسلامية. فالتصوف الشعبي أقرب إلى التجربة الجمالية والتعبيرة الفولكلورية منه إلى الالتزام الديني حتى في أشكاله الدنيا، كما أنه يخلو من الأبعاد الطقوسية والتشريعية التي هي أساس الخلاف بين النخب الحداثية وممثلي الإسلام الحركي.
اتسمت مواقف النخب الحداثية من القضايا الدينية انسيابية المواقف أو صداميتها، بحيث يكون من الصعب جدا بالنسبة للوعي الجمعي ضبط الحدود الفاصلة عند تلك النخب بين معاداة تمثلات أو أطروحات دينية معينة -يحملها الإسلام السياسي خاصةً- وبين معاداة الدين في ذاته، أي في عقائده وطقوسه ورموزه وقيمه وتاريخه الحقيقي والمتخيل. وهو أمر يزيد في تعميق السمعة السيئة للعلمانية، كما يزيد من توجّس عامة الناس من النخب الجامعية التي يغلب على مواقفها عدم التمييز بين "مظاهر التدين" والدين في ذاته. وهو أمر يرجع أساسا إلى نزعة "المضاددة" التي تعتمدها النخب تجاه مواقف حركة النهضة، فكأن كل ما تطرحه النهضة هو "إسلام سياسي" ولا يعبر عن حاجات دينية مشتركة بين عموم المؤمنين، أو كأن جميع مظاهر التدين في المجال العام تخدم حركة النهضة بالضرورة وتعرض مدنية الدولة ومبادئ حقوق الإنسان.
رغم كل ما يمكن أن يُوجّه من نقد لتعبير "الإسلام التونسي"، فإننا لا يمكن أن ننكر أنه يعكس احتياجات روحية حقيقية عند الكثير من الفئات الاجتماعية المدينية والريفية التي لا تجد نفسها في خطابات الحركات الإسلامية. فـ"الإسلام التونسي" هو في وجه من الوجوه خطاب سلطوي محافظ وذلك إذا ما بحثنا في ارتباطاته التكوينية والوظيفية مع الدولة-الأمة الناشئة بعد الاستقلال، ولكنّ "الإسلام التونسي" هو في وجهه الآخر خطاب احتجاجي وذلك إن نحن نظرنا إليه في علاقته بالإسلام السياسي وبأنماط التدين التي يدعو إليها. فما تثيره بعض الخطابات الدينية الوافدة مع الإسلام السياسي من مخاوف عند النخب البرجوازية المدينية، بل عند عموم المواطنين، هي مخاوف مشروعة في أغلب الأحيان، وهو ما يستدعي من تلك الحركات الإسلامية -خاصة حركة النهضة- أن تبحث مع النخب العلمانية عن "كلمة سواء"، وهي كلمة لا يمكن إلا أن تكون تجاوزا جدليا للخرافات المؤسسة "للنمط المجتمعي التونسي" من جهة أولى، ولادعاءات "الموقعين عن رب العالمين" من أتباع الإسلام السياسي من جهة ثانية.