زعموا أنها «أرض بلا شعب»، فمنحوها لليهود. يقيمون فيها وطنا، ينتظرون اللبن والعسل، يبنون بيوتا وناطحات سحاب على الرمل.
لكن ظلت لقمة الفلسطيني مغمسة بالزيت والزعتر والفلسطينية، تطرز ثوبها بلون أغصان الزيتون والليمون والتوت والبحر الأزرق.
في فلسطين، وفي الشتات، تسأل الطفل الذي يتهجى حروف الحياة، فيقول لك: أنا فلسطيني، يسألك، وهو الذي غادرها أبو جده، لا هو ولا أبوه: متى نعود؟ أقاموا «دولة» سموها «إسرائيل». أمدوها بالمال والسلاح، والدعاية والإعلان والإعلام، صارت نووية، تتمدد..
كما تشاء، تتمرد على مجلس الأمن والأمم المتحدة ودعاة السلام. لكن، كلما كبرت «الدولة»، كبرت «الخيمة» التي يحملها الفلسطيني داخله، سواء سكن بيتا أو قصرا، في زقاق أو على شاطئ بحر، في أقصى شمال الأرض أو في أقصى جنوبها.
اليوم يحيي الفلسطينيون ذكرى النكبة، والإسرائيليون يحيون ذكرى المحرقة «الهولوكوست». الثانية مارسها النازيون القدامى ضد اليهود، والأولى «النكبة» هولوكوست جديد، يمارسها اليهود ضد الفلسطينيين. بعد ثماني وستين سنة..
ورغم اعتراف العالم زورا بها، فإن إسرائيل لم تزل تقف على شفا هاوية، وجدت أصلا عليها. كذبة اخترعوها، فصدقوها، وأقنعوا العالم بها. لكن حبل الكذب قصير مهما طال، كما كانت تقول جدتي، التي ولدت في بلدة يحضنها البحر، وتغسل شعرها بالنهر الذي يمر منها، حين لم يكن ثمة شيء اسمه تل أبيب، بل تل الربيع، كانت تل أبيب حديقة يافا الخلفية..
وكان المحتلون في خلفية البشر. جاؤوها محتلين مرابين، قتلة إرهابيين، وللأسف، ساعدتهم السياسة، فغيروا الجغرافيا، لكن، من يستطيع أن يمحو التاريخ المنقوش في الدم الفلسطيني، وعلى وجه ذاك الطفل الذي يلثغ بالسين، ويقول لك «أنا فلثطيني».
الفلسطينيون لا ينسون فلسطينهم، والإسرائيليون يكتشفون سنة بعد سنة كذبتهم. هنا رسالة وجهها خالد عيسى الفلسطيني اللاجئ في السويد، الذي «زار» مؤخرا بلاده، ووجه رسالة إلى محتل بلده، تلخص أعقد حكاية تراجيدية في التاريخ. يقول خالد: في ذكرى الهولوكوست:
صباح الخير يا عدوي!
وأنت تشرب قهوتك هذا الصباح في بيت جدّي في يافا، وتبكي على جدّك في وارسو في ذكرى المحرقة، هل تصدّق أنني أبكي عليه أنا أيضا، وأنا أشرب قهوتي بعيدا عن يافا، في مدينة إسكندنافية جنوبي السويد، أبكي مثلك على المحرقة، التي نحن أول من اكتوى بنارها، ولا نزال نحرق كل يوم من أجل محرقتك، بعد قليل، سيطلق زامور الحداد في بلادي، التي اغتصبها أولاد جدّك، وستقف على شرفة بيت جدّي، وتذرف الدموع على جدّك، وأنا سأقف على شباك غرفتي، وأذرف الدموع على جدّك المحروق الذي أحرق قلب جدي الذي مات في مخيم للاجئين حنينا ليافا، هل أعجبك بيت جدّي يا عدوي؟!
ما رأيك بذوق جدّي، الذي بنى بيته على الطراز العثماني، هل تعرف جدّي يا عدوي؟ والدك يعرفه، هو من قلع صورته عن جدار الصالون الفسيح الذي تجلس فيه الآن، وعلّق صورة جدّك، ضحية المحرقة في وارسو، دعنا يا عدوي نبكي على جدّك وجدّي، في ذكرى المحرقة، تريد أن تبكي على جدّك فقط.. أنت حر، جدّي لم يحرق جدّك، لماذا أحرقت جدّي يا عدوي؟!
هل تعرف دير ياسين يا عدوي؟ لم تكن قد ولدت بعد، والدك الهارب من بطش النازية من بولونيا يعرفها، هو من أضرم النار في بيوتها، وأحرق سكانها العزل، وفي اليوم التالي، بكى أمام كاميرات وسائل الإعلام على الهولوكوست!
لا تغضب يا عدوي، لن أزيد أحزانك اليوم، وأنت تقف حدادا على ضحايا المحرقة، وزامورك يقرع في بلادي، وأنت تشرب قهوتك في بيت جدّي، وتبكي على جدّك! هل تحب يافا أم تل أبيب يا عدوي؟
لا تشتمني يا عدوي في ذكرى المحرقة، التي لا نزال نحن نكتوي بنارها، وأنت تأكل البوظة في «فيكتوري» في يافا، وتضرم النار في محرقتنا التي لا تنتهي منذ 67 عاما!
تلكم هي الحكاية التي تصغر كلما كبرت. لا ذنب ولا جريمة اقترفها الفلسطينيون حتى يدفعوا ثمن جرائم النازية، بأن يتحول وطنهم، ليس فقط إلى ملجأ لليهود الهاربين، بل وطنا لليهود الأجانب، على حساب أمن واستقرار وحياة الفلسطينيين على أرض وطنهم، أصبحت المعادلة، أن تعرض اليهود في أوروبا للمحرقة، فحولوا محرقتهم لتنال من الشعب العربي الفلسطيني على أرض وطنه فلسطين، الذي لا وطن للفلسطينيين سواه.
يتذكر اليهود مأساتهم في شهر أيار/ مايو، وينسون أنهم سببوا المأساة للشعب العربي الفلسطيني من المسلمين والمسيحيين، في شهر مأساتهم ذاته، خلال شهر النكبة والتشرد، واللجوء والفقر وفقدان الحد الأدنى من مقومات الحياة التي أقلها «وطن»!
لن تصبح فلسطين «إسرائيل». الإسرائيليون يستطيعون حمل السلاح وقتل الفلسطينيين، لكنهم لن يستطيعوا حمل جثة كذبة إسرائيل.
عن صحيفة البيان الإماراتية