لو كان حيّاً، لرفعت عليه دعوى قضائية. لائحة الاتهام تتضمن: بث الحزن، الكآبة، الإحباط، السوداوية لدى أجيال على مدى عشرات السنين. وضع أصبع صوته على الجروح، فراح ينكأ بها حفراً، ويرش عليها الملح، فتسيل دموع مرة من قلوب المحبين والسيئة حظوظهم.
غاص فريد الأطرش في مساحات الحزن في الحياة، حتى إنه لعن اليوم الذي ولد فيه، وغنى «عدت يا يوم مولدي / عدت يا أيها الشقي». كان يترجم أحاسيسه في ألحان مميزة، جعلته أحد عمالقة الغناء والموسيقى العربية. لكن تلك الألحان كانت تخرج من نفس الجرح العميق في نفسه، حاملاً رائحة حالة انكسار لازمت حياته، خاصة بعد وفاة شقيقته أسمهان، التي كانت منافسة قوية لأم كلثوم، وغنت له «ليالي الأنس في فيينا»، «نويت أداري آلامي»، «فرق ما بينا ليه الزمان»، وغيرها من الأغاني التي خرجت من نفس بيت الحزن.
انقسم جيل الأربعينيات والخمسينيات بين حزب محمد عبد الوهاب، صاحب الصوت الهادئ المثقف، وحزب فريد الأطرش. أتذكر حين كنت صبياً، أبو محمود زعيم حزب الأطرش في حارتنا، كان يسرح شعره إلى الخلف، ويرفع بنطاله إلى وسط البطن. يصحو على صوت فريد، يغني بصوت فريد، وينام بحزن فريد. لكأنه تلبّسه جن فريد، يغني أغانيه في أي وقت، وفي أي مكان.
ولطالما كانت تحدث مشادات كلامية بينه وبين والدي الأكبر منه سناً، وهو من حزب عبد الوهاب: «أتحدى فريد تبعك يقول كلمة واحدة كما يقولها عبد الوهاب، كلمة «كليوباااترا»، وهي مطلع أغنية «كليوبترا أي حلم من لياليك الحسان»، فيرد عليه عمر: «هذا يغني مثل البنات وصوته بينعس». وتنتهي المشادة الكلامية بشجار بين الفريقين، وخصام يدوم أياماً.
كان لوالدي صوت جميل، ويحفظ كل أغاني عبد الوهاب. مرة سألته عن سبب عشقه لعبد الوهاب، قال: في الأربعينيات، كان أي فيلم جديد لعبد الوهاب، مثل «الوردة البيضاء»، «ممنوع الحب»، «رصاصة في القلب»، يعرض في سينما الحمراء في يافا، في الوقت نفسه مع دور السينما بمصر. كنا، شباب القرية التي لا تبعد سوى ثلاثة كيلو مترات عن مكان السينما، نذهب مشياً لمشاهدة الفيلم، خاصة عندما نعلم أن عبد الوهاب قادم إلى العرض الأول للفيلم، وكثيراً ما كان يفعل ويمضي عدة أيام للاستجمام، والتمتع بجمال يافا. وحين نخرج من السينما، نذهب إلى صانع الأحذية، وإلى الخياط، ونفصل نفس ما كان يرتديه عبد الوهاب في الفيلم.
عندما دخل عبد الحليم حافظ على الساحة الفنية في الخمسينيات، تشكل حزب ثالث، وهو جيلنا. كانت أولى أغنياته «صافيني مرة»، وغنى لنا «في يوم في شهر في سنة»، «وحياة قلبي وأفراحه»، «موعود»، «على قد الشوق» وغيرها.. وتماهى مع تطور الزمن، وغنى «سواح»، «زي الهوا»، «قارئة الفنجان»، «الهوا هوايا»، وغيرها من الأغاني التي جعلت له جمهوراً عريضاً من الجيل الجديد حينها، ومنهم أنا.
أذكر أننا كلما كنا نشعر بالملل، كنا نذهب إلى السينما، لنشاهد فيلم «أبي فوق الشجرة»، وأغنيات الفيلم التي حفظناها وغنيناها في الشوارع، التي كانت هادئة في الليل، مزدحمة بالبساطة والفرح.
هزمنا حزب عبد الوهاب وفريد. فالأول كان يغني لزمنه بحس مرهف، وصوت دافئ، كلمات وقصائد عميقة، والثاني فريد، كان يعبّر عن الحزن، ويبكي جيله معه. أما عبد الحليم، فكان حين يتألم يعبّر عن ألمنا، يوجعنا، لكن برفق من دون بكاء. ثمة فرق بين أن تتألم وتستسلم، وبين أن تتألم وتتحمل وتواصل الحياة، التي لا تستقيم على وتيرة واحدة. فلا فرح يدوم، ولا ألماً يبقى.
أعتذر لفريد الأطرش وعشاقه، فقد كان صادقاً في أحاسيسه، وكان أحد عمالقة الغناء والموسيقى، لكنه لم يستطع أن يرى كل الوردة، بل الشوك في الوردة.
(الدستور الأردنية)