في مدينة غزة اصطف المئات من الشباب والفتيات في سلسلة طويلة في ميناء غزة حملت اسم "سلسلة الشهيد بهاء عليان للقراءة" وهي امتداد لسلسلة أطلقها الشهيد المذكور على أسوار مدينة القدس ثم امتدت بعد استشهاده بمبادرات شبابية ذاتية إلى مدن
فلسطينية عدة في الضفة وغزة ثم تجاوزت حدود فلسطين لتشمل عدة دول عربية وأوروبية.
ربما يُنظر إلى الفعالية بأنها مجرد "نشاط ثقافي" يحدث مثله كثيراً في كافة البلدان، لكن حجم تفاعلها وانتشارها وحرص القائمين عليها على إبراز الطابع الوطني و نفي أي صبغة فصائلية لها يعطي مؤشراً على رغبة ملحة في نفوس الشباب للخروج من دائرة التهميش والانكفاء على الذات إلى دائرة المساهمة الإيجابية والتأثير، والشعور الذي يكتنف هؤلاء الشباب بأن الواقع الفصائلي الراهن في الساحة الفلسطينية لم ينجح في إيجاد الصيغة المناسبة لتفجير طاقاتهم وتمكينهم من الفعل الاجتماعي والسياسي فلجأوا إلى البحث عن ذواتهم في كافة الاتجاهات بطريقة لا تزال عشوائيةً لكنها تحمل جنين التشكل والتحدد في مراحل لاحقة.
كانت تعليمات المنظمين واضحة: نحن مجموعة من الشباب الفلسطيني يهدف إلى إبراز الهوية الوطنية وإلى تجسيد الوحدة بين كافة أرجاء الوطن التي فصل بينها الاحتلال والانقسام، لذلك لا نريد إظهار أي رمز فصائلي، ونرجو من الجميع اصطحاب الكوفية الفلسطينية فقط و كتاباً للقراءة، وهذا ما تم فعلاً فقد ارتسم في ميناء غزة مشهد وطني رائع تمثل في مئات الشباب والفتيات من كافة ألوان الطيف الذين ينتظمون في سلسلة طويلة في يد كل واحد منهم كتاب يطالعه في رسالة واضحة المعالم بأن هناك مساحات يمكن للشباب الاجتماع والعمل فيها.
لا أناقش هنا القيمة الثقافية لهذا النشاط والهدف المباشر الذي سعى القائمون إليه من تعزيز ثقافة القراءة، بل أتناول الدلالات السياسية والاجتماعية الضمنية لهذه الأنشطة، وبالمناسبة فهذا النشاط ليس معزولاً، بل يأتي في سياق أنشطة اجتماعية وثقافية متعددة يبادر إليها الشباب بمساعدة وسائل التواصل الاجتماعي، هذه الأنشطة تمثل رداً طبيعياً وإشعاراً بالحياة و بالألم من قبل الشباب الفلسطيني على واقع التهميش الذي يلاقونه من قبل التنظيمات والحكومات، كما يمثل محاولات مبتدئةً لتحريك المياه الراكدة بعد أن استنفدت الفصائل الفلسطينية طاقتها الإبداعية ودخلت في مرحلة الجمود والتكرار والروتين منذ سنوات عدة وغاب الإبداع النضالي وتحولت التنظيمات التي تأسست بهدف التحرر الوطني في جزء كبير منها إلى بيروقراطيات متضخمة يتحكم في توجيه سياساتها رغبات المتنفذين في المحافظة على الهدوء والأوضاع القائمة بعد أن ارتبطت مصالحهم الفئوية الضيقة، وربما الشخصية أحياناً، بالمحافظة على هدوء الأوضاع وتجنب أي خطوة ثورية جادة قد تعصف بمكاسبهم ونفوذهم.
اللافت للنظر أن الشهيد بهاء عليان الذي حملت هذه الأنشطة اسمه يمثل حالةً نموذجيةً يمكن من خلالها قياس الفجوة بين الشباب الفلسطيني والفصائل، فقد ترك الشهيد عشر وصايا تداولها الشباب على نطاق واسع كانت الوصية الأولى فيها: "أوصي الفصائل بعدم تبني استشهادي فموتي كان للوطن وليس لكم"، أما وصيته الرابعة: "لا تزرعوا الحقد في قلب ابني، اتركوه يكتشف وطنه ويموت من أجل وطنه وليس من أجل الانتقام للموتى".
ما الذي دفع الشهيد بهاء عليان إلى تسطير هذه الكلمات التي تقطر بمشاعر الألم والخذلان؟ وما الذي دفع الشباب الفلسطيني إلى اتخاذه أيقونةً تنطق بما يجيش في صدورهم؟
الواقع يقول إن الفصائل عموماً في رؤاها الفكرية وبناها التنظيمية الحالية لم تعد مؤهلةً لإحداث اختراق لحالة الجمود الراهن وقيادة عملية تغيير ثوري سواءً على الصعيد الوطني في العلاقة مع الاحتلال أو على الصعيد الداخلي في إحداث تحولات ديمقراطية وتأسيس مجتمع العدالة والنزاهة والشفافية وحقوق الإنسان.
هناك فجوة لا تخطئها عين المراقب بين طبقة القيادات السياسية الفلسطينية الذين يعيشون حياةً مستقرةً على الصعيد الشخصي ويؤمنون أوضاعهم المعيشية ومستقبل أبنائهم ويشاركون بين الفينة والأخرى بمؤتمرات صحفية ولقاءات إعلامية ونشاطات جماهيرية لا تخرجهم عن حالة البريستيج ولا تكلفهم كثيراً من الجهد والتضحية، وبين قاعدة عريضة من الشباب المحطم المقهور الذي يتمزق بفعل البطالة والفقر وانعدام الأمل في المستقبل وغياب ميدان التأثير والفاعلية الذي يستطيع التعبير فيه عن نفسه، وفي ظل هذه الفجوة الآخذة في الاتساع لا بد أن يفقد الشباب الفلسطيني ثقته بالفصائل وأن يخوض معركة البحث عن الذات بنفسه وأن يقتنص أي مساحات يستطيع من خلالها رفع صوته ليقول ها أنذا موجود.
هل من المجدي مطالبة الفصائل الفلسطينية بفعل شيء لهذا الشباب المحطم اجتماعيا المغيب سياسيا؟ لست متأكداً من أن مطالبتي ستجد آذاناً صاغية، إن هناك علةً تصيب الجماعات عبر التاريخ إذ تبدأ هذه الجماعات بمرحلة الروح التي تفيض فيها الطاقة الإبداعية والإلهام فتؤثر الجماعة في مسار الأحداث، فإذا طال الأمد تشكلت طبقة استمدت قوتها من الجيل المؤسس وتضحياته وشهدائه دون أن تمتلك روحه وحلت لغة مراعاة المصالح الخاصة والبحث عن الامتيازات محل لغة نكران الذات وحب العطاء فتدخل الجماعات مرحلة الصنمية التي تبقى فيها الصورة وتموت الروح مثل جسد سليمان وهو متكئ على عصاه فما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته؟
هل تبقى لدى الفصائل ما تقدمه للوطن أم أنها غدت مثل جسد سليمان المتكئ على عصاه يوهمنا بالحياة بينما تنخر دابة الأرض منسأته، ومتى ينضج الحراك الشبابي الضعيف ويستوي على سوقه ليملأ الفراغ الاجتماعي والسياسي ويقدم صيغةً حيةً تخرج الحالة الفلسطينية من سنوات العجز والجمود؟
نأمل ألا يطول الانتظار..