تعودت أبواق السلطة في
مصر على ترويج الأكاذيب وإيهام الجماهير بأننا محل اهتمام العالم وتقديره وأن كل من يخطط شيئا في الكون لا بد أن يعود إلينا ويحظى برضانا، موجات مهولة من الإفك تتناقلها الشاشات، ميزانيات مالية ضخمة يتم ضخها في إذاعات وفضائيات وصحف لتغسل دماغ الشعب وتزرع فيها ما تريده السلطة ولو كان غير منطقي، ومن يعترض أو يُعمل عقله فتهم الخيانة والعمالة وكراهية الوطن جاهزة بقوالبها المتدنية!
أتت قضية تعذيب وقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجينى لتضع مصر في مواجهة مع العالم لا يمكن التنبؤ بعواقبها، أشد المعارضين للسلطة يتمنى من أعماق قلبه ألا تكون الدولة متورطة في جريمة التعذيب والقتل نظرا للكارثة التي ستحيق بالوطن إذا ثبت ذلك، لكن التعامل مع الأزمة يبدو فيه إصرار غريب على توريط مصر أمام العالم.
بعد زيارة الوفد المصرى لروما للقاء نظيره الإيطالي خرج لويجي مانكوني، رئيس لجنة حقوق الإنسان في البرلمان الإيطالي ليعلن فشل اجتماع المحققين والمسؤولين الأمنيين المصريين والإيطاليين، ونقلت الإذاعة الرسمية عن «مانكوني» قوله: أضيفت لوفاة جوليو ريجيني مأساة أخرى، فبعد شهرين ونصف من الأكاذيب المصرية، لا يمكننا استخدام عبارات لطيفة تجاه إهانة ذكائنا من الجانب المصري! في الوقت الراهن ليست لدينا أي ضمانة على حسن نية مصر، ولا مفر من أن يسود الشك لأن الملفات الضخمة التي جلبها المصريون معهم، تستدعي ترجمة خاصة من اللهجة المصرية العربية (إلى الإيطالية) وهذا يتطلب الكثير من الوقت، ثم ينبغي بعد ذلك التحقق من هذه الترجمة مع المحققين المصريين"، في إشارة إلى ملف من 2000 صفحة حمله الوفد المصري إلى روما.
لم يصدق الإيطاليون ما قاله الوفد الرسمي المصري عن حرمة الحياة الخاصة ومنع الدستور المصري للتجسس على مكالمات المواطنين لأنهم رأوا مع العالم كله انتهاك الحياة الشخصية على شاشات الفضائيات والافتخار بالتجسس على مكالمات المصريين وفبركة أحاديثهم انتقاما من معارضة بعضهم للسلطة ورفض تأييدها، لم يصدق الإيطاليون عدم وجود ظاهرة الاختفاء القسري في مصر لأنهم يرونها تحدث يوميا وقامت إحدى كبريات صحفهم بنشر مئات الصور للمعتقلين قسريا في مصر لتقول لنا بلسان الحال: نحن لا نصدقكم.
لم يصدق الإيطاليون نفى تهمة التعذيب عن الدولة في مصر لأنهم يرون مئات الضحايا الموثقة شهاداتهم حقوقيا ويرون جلاديهم بلا حساب يترقون لمناصب أعلى وكأنهم تتم مكافأتهم على جريمتهم، لن ينسى أحد ما قالته والدة ريجيني أمام البرلمان الإيطالي عن ابنها "شرور العالم كلها وجدت على وجهه في صورة ما بعد قتله، كان باحثا يحب عمله لم يكن صحفيا حتى أو جاسوسا أو أي شيء آخر، والشيء الوحيد الذي وجدته في صورة جوليو هو طرف أنفه، لأنهم نصحونا في مصر بعدم رؤية الجثة". وأضافت عبارتها المهينة لكل مصري سمعها: "عذبوه وقتلوه كما لو كان مصريا"!
وكأن التعذيب والقتل صار لدى العالم عادة مصرية صميمة تشتهر بها مصر ويتعايش معها المصريون كحدث اعتيادى لا يجب التوقف عنده.
كيف توهمنا أن العالم سيصدقنا وهو يرى منا كل هذه التناقضات؟ كل مسؤول عن هذه الأزمة أو مشارك في صنعها في رقبته ذنب آلاف الأسر من المصريين الذين يعيشون على السياحة ودخلها وكلهم تأثروا بشكل مباشر بما حدث، لم تعد القضية مناكفات سياسية ولا مكايدات في نظام لا يسمع سوى نفسه، ولكنها قضية شعب يسير بخطى متسارعة إلى الإفلاس والفقر بسبب سياسات خاطئة أوصلتنا لهذا التردي.
يعتصرنا الحزن ونحن نرى من يستمرون في تصديق الأكاذيب التي تتكشف يوما بعد يوم، تضيق بنا الدنيا ونحن نرى أمام أعيننا خطوات حثيثة نحو الهاوية لا نستطيع إيقافها، ربما كان قدرنا أن نتألم كل هذا الألم حتى ندرك جميعا حجم أخطائنا في الماضي التي شاركت بقدر لا يمكن تجاهله في أن نصل لهذه المأساة.
لن يطول الوقت بهذا المشهد العبثي، فلنتعلم من أخطائنا ولنستعد فأمامنا الكثير من العمل لتعود مصر لركب الإنسانية وسلم الحضارة..