يبدو النقاش والجدل المحتدم حول قضية مثل الميراث الشرعي وزواج المسلمة بغير المسلم نقاشا عبثيا لا يستند الى منطق ولا مرجعية محددة يمكن الانطلاق منها للوصول الى رؤى موضوعية في مثل هذه القضايا، نحن في استقطاب أحمق بين من يدعون التنوير ومن يدعون الأصالة والتمسك بالثوابت والحفاظ على الدين، كل فريق يمارس الإرهاب الفكرى والتشنج الذى تضيع بين جلبته وصخبه الحقيقة وتنتحر الموضوعية وينعدم صوت العقل.
نحن نعاني من الازدواجية الفكرية والانفصام الأخلاقى فى النظر لنفس القضايا المتشابهة فنرى بعين واحدة بينما يصيب العين الأخرى عمى متعمدا ومختارا لكى نبتعد عن الإنصاف ونهرب من مواجهة أنفسنا ، هبوا فجأة يعلنون أن المدنية تعنى المساواة التامة فى الميراث بين الرجل والمرأة فى كل الحالات واعتبروا أن خلاف ذلك يعنى الانتقاص من حق المرأة بينما لا يرون غضاضة فى إلزام الرجل بالانفاق المالى على المرأة ولا يقتربون من مفاهيم مثل ( نفقة المتعة ) وما شابهها ليمارسوا التجديد والتنوير الذى يصدعون أدمغتنا به، بينما هو فى الحقيقة تجديد انتقائى عشوائى ليس له جذور راسخة ومنطلقات يتأتى من خلالها.
على الجانب الأخر يقبع فريق حراس العقيدة وحماة الدين يلقمون بالأحجار كل من تسول له نفسه الاقتراب من التراث الفقهى التاريخى وكل من يفكر فى إعادة قراءة النصوص الشرعية وإعمال العقل فيها و تجديد مراميها وأغراضها بما يتناسب مع الزمن الذى نعيش فيه بكل المتغيرات التى لا تتوقف
نحن بين شقي الرحى ولا نفارق مكاننا ، يحتدم النقاش وتعلو الأصوات وتظن أن هناك مفاهيم بالية ستتغير أو أفكار مشوهة ستنضج وتتزن لكن لا يحدث شىء من ذلك وتهدأ الضجة ونبقى على حالنا المزرى فى عدم تطور الأفكار أو رشادتها وتجديد وعينا الذى تشوه تحت تأثير عوامل عدة منها التعليم المسخ والمناخ السلطوى الذى رسخ على مدار عقود من الزمان أحادية الرأى وسلفية الأفكار وتشوه الفطرة وكسل العقول وركونها للتقليد والاتباع!
نهرب من إجابات الأسئلة الكبرى لا أحد فينا يقول ما الذى يريده بوضوح؟ هل مرجعيتنا دين أم عقل ؟ وهل تتنافى بعض النصوص الدينية مع العقل ؟ هل نريد دولة مدنية لا تخضع لنصوص دينية وتفسيراتها ولا تخضع لكهنوت وتتعامل مع كل المواطنين فيها بقانون وضعى واحد يخضع له الجميع ؟ أم دولة شبه مدنية تتقيد بنصوص دينية وتفسيراتها وترضخ لاجتهادات فقهاء قرأو النص بظروف عصورهم وأخرجوا أحكاما وأفكارا هى بنت زمانهم ووليدته ؟ نحن فى حالة اضطراب للهوية وصراع لم نستطع حسمه حتى الآن.
الليبراليون لدينا ليبراليتهم ليست كاملة وتجتزىء ما تقدمه للناس حتى لا تخوض معارك كبرى وسط مجتمع أتلفه الجمود وتوقف اجتهاده لقرون عدة فصارا متكلسا أسيرا لهذه التفسيرات والاجتهادات القديمة ، أما الأنظمة الحاكمة فهى تستخدم الدين وتوظفه بشكل مباشر أو من خلال مؤسسات دينية تابعة لها تساعدها فى فرض الهيمنة الفكرية على الجماهير وتوجيههم نحو ما يضمن الولاء للسلطة ليستمر الجمود وشيخوخة الأفكار وشيوع الكسل المعرفى وازدياد الجهل والخرافة.
يجب أن نتحلى بالشجاعة ونصارح أنفسنا، هل سنتعايش مع النصوص الدينية ونلتزم بفحواها أم سننبذها بلا رجعة لنتحرر من تفسيراتها وننطلق لمساحات جديدة من التفكير النقدى القائم على تحقيق مصالح الناس أينما وجدت (بعضهم يرى ان مصلحة الناس تكمن فى تنفيذ النصوص الدينية)، هل سنراعى النص ولكن سنجدد قراءته وتفسيره ليتلاءم مع الواقع ومقتضيات الضرورة الحالية؟
هل مجتمعنا بما يحتويه من اختلافات سيقبل ذلك؟ ما الذى نحتاجه لنصل لمرحلة من النضج والرشادة العقلية والفكرية التى تجعلنا نتعامل مع النصوص بلا خوف وبلا افتراض أنها صالحة لكل زمان ومكان بصورتها الحالية؟ هل سنتوقف عن الصخب والاستعراضات الكلامية وندلف لعتبة الحقيقة ونعلن تحكيم العقل قبل أى محدد آخر؟
إن المجتمعات المأزومة لا تنتج فكرا ولا تتعاطى اجتهادا ولا تتزحزح قيد أنملة عن عاداتها وقيمها مهما كانت ضارة ولا تتسم بالعدل، مستقبلنا مفخخ بالكراهية واحتقار المختلف والركون للماضى ومحاولة تلميعه وإعادة إنتاجه مع اعتماد المنهج التلفيقى فى تبرير كل شىء لإبقاء الأوضاع على ما هى عليه
حرية الرأى والفكر تأتي إذا تحققت حرية الانسان التي إذا تحققت فتحت السبل لتحرر العقل ورشادته، معركتنا صناعة الوعى وإيقاظ الغافلين عن سواد المستقبل إذا لم نسلك درب التنوير الحقيقى ونخلع ثوب الماضي ونتدثر برداء المستقبل، عسى أن يكون ذلك قريبا.