سيطر خبران على المواقع الاجتماعية والأخبار في الأسبوع الأخير من آذار/ مارس؛ الأول عدم انتخاب السيدة راضية النصراوي في هيئة دستورية لمقاومة التعذيب، والثاني تصريح للأمين العام للاتحاد العام
التونسي للشغل حسين العباسي، حول تنكر بعض الوزراء الذين فرضتهم النقابة في الحكومة لإملاءات الاتحاد وقد ذهبت الصفحات مذهب الشماتة والسخرية من الموقفين والشخصيتين دون أن تغوص في تحليل الخلفية التي تحكمت في الموقفين.
إقصاء المناضلة المحترفة
"هيئة مقاومة التعذيب" هيئة نص الدستور على وضعها وانتخابها من قبل نواب المجلس مثل "هيئة الحقيقة والكرامة"، و"هيئة مراقبة الإعلام (الهايكا)" و"هيئة مكافحة الفساد" التي تم انتخابها ولم تثر ضجة كبيرة رغم نشاط رئيسها، الذي بدأ في كشف مواضع الفساد بما في ذلك فساد هيئات المجتمع المدني كاتحاد الشغل.
لكن المتابعة الساخرة والشامتة والحاقدة أغفلت أهمية دسترة مقاومة التعذيب، وتقوية صلاحيات الهيئة لتكون عين المجتمع والدولة ضد ممارسات التعذيب وبؤره، وذهبت فقط دفاعا عن أو شماتة في إقصاء السيدة راضية النصراوي المحامية وزوجة زعيم الجبهة الشعبية (تجمع أحزاب اليسار الراديكالي وشخصياته)، كما لو أنه الحدث الرئيسي، وهو تحريف بين للنقاش فتح بابا آخر للاستقطاب والبغضاء السياسية.
السيدة راضية مناضلة منذ زمن الدكتاتورية ضد ممارسات التعذيب، وقد صنعت بذلك سمعتها المدنية والسياسية وصورها بآثار المصادمة مع الأجهزة لا تزال تملأ الفضاء العام، وقد مارست حقها في الترشح وخضعت مبدئيا لمنطق نتائجه السياسية ووجدت نفسها خارج الهيئة وهو أمر منتظر، بالنظر إلى أن الأغلبية النيابية ليست في صفها ولم تراع تاريخها.
السؤال الذي لم يطرح هو هل أن على السيدة راضية أن تظل مناضلة أبدية متحوّزة على هذا "القلم" حتى النهاية أم يجب فسح المجال لتغيير المناضلين التاريخين بآخرين يتدربون ويصنعون أجيالا أخرى من الحقوقيين؟ يبدو كأن لا أحد مستعد للتخلي عن موقعه ومكاسبه.
النقابة تعيّن الحكومة
تصريح السيد العباسي عن الوزراء ناكري المعروف يعتبر حدثا ذا دلالة بالغة، مثل رده القاسي في نفس الخطاب على المحامي شوقي طبيب رئيس هيئة مكافحة الفساد، الذي بين أن بعض المطلبية النقابية قد خالفت كل الأعراف من خلال فرض نسبة توريث داخل الوظيفة العمومية فصار بإمكان الموظفين (بحسب كوتا قابلة للزيادة)، أن يورثوا أبناءهم مواقعهم الوظيفية في مخالفة صريحة لكل أحكام الوظيفة العمومية ولوائح التشغيل القائمة على مبدأ تساوي الفرص.
الجميع ومنذ الثورة كان يعرف دور الاتحاد في فرض خياراته على الحكومات المتعاقبة مستندا إلى ما يدعيه لنفسه من شرعية نضالية تاريخية وإلى احتضان النقابات الجهوية للهبة الشعبية في أول الثورة وهو الذريعة التي خول الاتحاد لنفسه بها السيطرة على مجريات الوضع وإسقاط الترويكا. والسؤال الذي لم يطرحه أحد هو كيف انقلب الوضع من دولة عندها نقابات إلى نقابة عندها حكومات تخضعها وتملي عليها؟
أحاول هنا مقاربة الحادثين من وجهة تاريخية وسياسية.
ماضي الدكتاتورية و سياسة التموقع المدني المضاد
تميزت التجربة السياسية للتونسيين منذ الاستقلال بغطرسة نظام الحكم ضد المجتمع، ومنعه بكل قوة من بناء مجتمع سياسي تعددي سليم، يسمح بخروج كل التعبيرات السياسية إلى الضوء وبلورة خطابها ضمن سياق منفتح، لكن الدكتاتورية لم تفلح في منع تشكل هذا المجتمع المدني بالصبر والمثابرة النضالية، لذلك قامت النقابة بدورها الاحتجاجي (الاجتماعي والسياسي) وتشكلت هيئات غيرها لمثل هذا الدور منها الرابطة التونسية لحقوق الإنسان (1977) وكانت هذه المنظمات ملجأ لكل الحساسيات السياسية ليحتموا بها من السلطة السياسية ويعارضوها من داخلها؛ ولهذا السبب كانت انتخابات هيئاتها تتم طبقا لمُحَاصَّة سياسية بيِّنة يأخذ فيها كل طرف سياسي قسطا فترتب نتيجة الانتخابات خارج القاعة وتفرز هيئات مسيَّسة للقيام بدور مدني، وكان الجميع متوافقا أو متواطئا ضد غياب المدني وهيمنة السياسي في كل هيئة، حتى السلطة كانت تتمتع بذلك إذ إن حصر السياسيين في موقع معروف يسهل السيطرة عليهم وقهرهم مجتمعين.
تخلد هذا التقليد وصار عرفا فقد كانت المنظمات الحقوقية والنقابية تمارس دورا سياسيا جعلها تسكت عن فقر الحياة السياسية الحزبية، وقد أبدعت الحساسيات اليسارية والقومية في التموقع حتى تملكت أغلب هذه المواقع واستعملتها بدورها لإقصاء خصومها من الإسلاميين بل وعاضدت بها السلطة خلال حقبة بن علي وأضفت الشرعية على سياساته الاستئصالية فالرابطة والاتحاد كلاهما تبنى أطروحة بن علي حول قضية الإسلاميين بصفتها جرائم حق عام وليس قضية سياسية، ولم يعرف عن السيدة النصراوي أنها خرجت عن هذا التصنيف، وكان جهدها ضمن جماعة متجه دوما إلى تخفيف معاناة سجناء حق عام.
الثورة لم تغير الأدوار كما كان منتظرا
بعد الثورة انتهى المنع الحزبي وانفجرت الساحة السياسة بأكثر من 120 حزبا تلاشي أغلبها ولكن تبلورت ساحة سياسية تعددية وكان المنتظر أن يخرج العمل السياسي من المنظمات المدنية ويترك لها الدور المدني الذي تنص عليه لوائح تأسيسها وإدارتها لكن العكس هو الذي حصل؛ لقد تأكد الإصرار على تملك المنظمات والهيئات واستعمالها استعمالا سياسيا بحتا.
توسع دور الاتحاد وقاد حركة إضراب سياسية بحتة أسقطت حكومات ما بعد الثورة وورطت البلد في زيادات أجور كارثية كان الهدف منها إرباك الحكومات وقد نجح في ذلك (بما في ذلك نجاحه في سابقة فرض التوريث الوظيفي) دون تقدير أي انعكاسات على بلد يخرج من أزمة اقتصادية ماحقة، وأغفلت المنظمات الحقوقية الدفاع عن السلفيين ضد التعذيب بل ودعا أنصارها إلى عدم معاملة السلفي المعتقل كإنسان له حقوق، في هذه الفترة كانت السيدة النصراوي بعيدة عن دورها الحقوقي المقاوم وأقرب إلى المناضلة السياسية المحترفة ضمن موقعها الحزبي (بعض المراقبين يعتبرونها هي القائدة الحقيقية للجبهة الشعبية من وراء ستار زوجها).
قالت النقابة عن نفسها "الاتحاد أكبر قوة في البلاد"، وسماها أحد قيادتها اليسارية عبيد البريكي "الماكينة التي تفرم جميع من يقف في طريقها"، وعندما يصل أمين عام المنظمة النقابية إلى القول بأنه يعين الوزارء ويملي عليهم أعمالهم نصل إلى صورة واضحة للوضع السياسي فالنقابة هي المتحكم في مفاصل الدولة وقد فرضت أيضا تشريعات محددة للتحكم في الترقيات الوظيفية وهي التي تعين المسؤولين الكبار في الإدارة بما يجعلها تحل محل الحزب القديم الحاكم (التجمع) الذي كان يسيطر على الإدارة عبر الشًّعَبِ المهنية (خلايا حزبية تراقب الإدارة) وكان يستزلم الموظفين فيخضعهم بالمنافع، وهو ما تقوم به النقابة الآن، فالولاء لها صار بوابة المغانم (علما بأن النقابة غائبة تماما في القطاع الخاص).
في هذا الوضع لم يعد هناك حكومة فعلية بل نقابة تحكم الدولة وهذا في كل مقاييس السياسة انقلاب غير ديمقراطي، يمكن القياس نفسه على بقية العمل الحقوقي فقد تحول إلى مطلبية سياسية أو يستعمل كمناورة سياسية فيصير التعري في الشارع حقا تعبيريا بينما يصير لبس النقاب عملا إرهابيا، وهنا نعود إلى أصل المشكل.
التموقع وصنع مراكز القوة
الحالة العادية ضمن نظام ديمقراطي هي أن السياسي والمدني لا يجتمعان في مؤسسة واحدة والأدوار مفصولة ومحددة بلوائح و تقاليد وتصب كلها في خدمة البلد (هذا ما نشاهده في التجارب المكتملة. لكن تجربة التونسيين تبدو هجينة بعد، ومن أمسك بخناق منظمة مدنية يواصل تسييسها وتوظيفها ومن كان خارجها يحاول التسرب داخلها ليحرم منافسه من موقعه طبقا لنفس قاعدة التوظيف السياسي).
والنتيجة هي تشويه كامل للحياة السياسية، أما الأحزاب فدورها ضعيف بعد وربما يتلاشى قريبا، وقد يبرر البعض بأنها خصوصية الديمقراطية التونسية لكني أراها تخريبا منهجيا لحياة سياسية لم ترتق إلى الديمقراطية.
الحرب الخاطئة وتخريب الديمقراطية
سبب هذا التموقع الآن ومداره هو الحرب الطاحنة بين فصائل اليسار والإسلاميين، وهي الحرب التي ضيعت الديمقراطية منذ السبعينيات.
اليسار لم يمكنه أن يصيرا جماهيريا فلم ينفذ إلى القاعدة الشعبية منذ نشأته وبقي تكتلات نخب (يخسر مواقعه بالانتخاب)، بينما يستحوذ الإسلاميون على الشارع (ويعتبر قوة انتخابية منظمة تفوز في كل استحقاق انتخابي).
يقع الاتحاد تحت هيمنة اليسار النقابي (الموالي كليا للجبهة الشعبية) وهي القلة التي تحكم الأكثرية، ويمكن القول إنها من فرض شروط اللعبة السياسية بعد الثورة وتحكم بالمسار بينما يقبع الإسلاميون عاجزين خارج المنظمات وتسقط حكوماتهم المنتخبة.
والنتيجة واضحة: حمل المجتمع برمته إلى خوض هذا الصراع وإفشال التجربة الديمقراطية ولا يخرج إسقاط السيدة الحقوقية من الهيئة عن هذه المعركة كما لا يقرأ تغوّل النقابة اليسارية بعيدا عن هذا الاستقطاب.
وهذه معركة لا تهم التونسيين بل هي المعركة التي ضيعت عليهم فرص التاريخ منذ نصف قرن.
لقد تكاذب التونسيون دوما بقوة مجتمعهم المدني وصوروا الحوار الوطني (2013) الذي رعته منظمات مسيسة بعد تعجيز البلد بالإضرابات على أنه نموذج في الحلول السلمية. لكني أراه عملا غير ديمقراطي، لقد أفضى إلى تحولات سياسية وجنب البلاد الاحتراب نعم لكنه حمل ولا يزال كل بذور الحرب الأهلية بين اليسار والإسلاميين وهي معركة خاصة وفئوية تخرب الديمقراطية وليست وهذا هو الأهم معركة التونسيين.
لقد آن الأوان لصرف النقاش (والفعل السياسي عموما) بعيدا عن هذه المعركة فقد استنزفت التجربة الوليدة وشوهتها وبذرت فيها بذور فنائها.
إن معركة التونسيين هي التنمية والتشغيل والحريات والإبداع، وعلى الاتحاد كما سائر النقابات والمنظمات بما فيها الحقوقية أن تخوضها بصفتها المدنية لا بما منحته لنفسها من دور سياسي وعليها أن تتوقف عن خوض حروبها السياسية قصيرة النفس والفئوية، وإذا كانت السيدة النصراوي حقوقية فعلا فعليها أن تساند الهيئات المنتخبة من خارجها ولا تشترط أن تكون فيها زعيمة مخلدة، فخدمة الإنسان لا تمر بالضرورة عبر جني الفائدة المباشرة منها.
أيها اليسار، أيها الإسلاميون؛ حربكم لا تعنينا فخوضوها بعدا عنا نحن لدينا بلد نريد أن نعمره، وقد أعقتمونا دهرا طويلا.