تتناغم الأصوات السياسية المؤثرة في
تونس معلية شعارات الوحدة الوطنية في مواجهة الإرهاب ومقدِّمة مشروع إعادة بناء البلد على أسس السلم الاجتماعية. لكن هذا التناغم العالي يخفي عامدا فقره إلى أسس قوية يقوم عليها ويوشك أن يخدع الناس عن اللحظة وعن المستقبل فيكتشف الناس المرعوبين من الإرهاب الذي يهاجم البلد من كل الجهات أن يستفيقوا يوما على بلد مفكك الأوصال منخور القوة وفاقدا للأمل في المستقبل. ويحق لنا نحن الذين خدعنا سابقا بشعارات الوحدة الوطنية أن نشكك في هذا الشعار خاصة إذا توافقت حوله مكونات السلطة، إذ يبدو أننا المؤمنون الذين يلدغون من الجحر الواحد مرات كثيرة. ونواصل وضع أيدينا في جحر الأفعى بحرص شديد.
الوحدة الوطنية خديعة قديمة تتجدد
(1) غداة الاستقلال تمكن الزعيم تحت مسمى الوحدة القومية من طمس كل مظاهر التعدد السياسي وساق الناس كالقطيع إلى الحزب الواحد والرأي الواحد حتى ألزمهم بالصمت المقهور بتخويفهم من انقسام الوطن إلى أحزاب وشيع لم تكن لها أسس حقيقية إلا في ماكينة دعاية مدربة على القهر.
(2) في السبعينيات وفي مواجهة الاحتجاج الاجتماعي، ولتمرير الإجراءات الليبرالية أعلن الحزب الحاكم ميثاق الرقي ووضع الانخراط فيه شرطا للسلم الاجتماعية ليدين كل نفس احتجاجي يواجه الشروخ الاجتماعية التي بدأت تظهر في نمط تنموي فاقد للتوازن، بل يؤسس للميز الاجتماعي والجهوي. ولما كان يكسر ظهر النقابة كانت شعارات الوحدة الوطنية وتخوين الاحتجاج هي النغمة السائدة.
(3) في الثمانينيات ولمواجهة المطلبية السياسية في التعدد الحزبي وفرض الحريات السياسية والإعلامية، استعيد شعار الوحدة الوطنية لدمغ كل الاحتجاج السياسي بالسعي الإجرامي إلى تفكيك الوطن وتشتيت قواه البناءة في مواجهة التحولات الاقتصادية المعولمة.
(4) في التسعينيات أعاد النظام الذي غير رأسه رفع شعار الوحدة الوطنية بعد أن اختلق عدوا داخليا ووصمه بالإرهاب وحكم لربع قرن بشعار الوحدة الوطنية ومرر تحته أقسى الإجراءات الليبرالية وتفكيك القطاع العام ورهن البلد لمؤسسات الإقراض الدولي حتى استنزف مقدراته وخرَّب مؤسساته المنتجة.
(5) جاءت الثورة فخلخلت الوحدة الوطنية المزيفة وفرضت بنص دستوري واجب التعديل الهيكلي عبر الميز الإيجابي. لكن بعد خمس سنوات من المناورات المدربة أفلح النظام في استعادة الشعار المغشوش حول الوحدة الوطنية بعد أن مكنه الإرهاب المعولم من حجة غير قابلة للدحض. تولت آلته الدعائية تضخيمها وتحويلها إلى كابوس يومي للمواطن البسيط غير القادر على الإلمام بالظاهرة وفهم أسبابها.
الوحدة الوطنية الآن خديعة أخرى
من يتوحد مع من في تونس بعد الثورة؟ للوصول إلى إجابة عن السؤال، نسأل أولا من يختلف مع من ولماذا؟
توجد في تونس فُرقتان فرقة سياسية أيديولوجية وأخرى اجتماعية وكلاهما من العمق بحيث لا يكفي رفع الشعارات الطيبة في مواجتهما.
أما الفرقة الأيديولوجية، فقائمة بين مشروعين ثقافيين ولدا كلاهما ونشأ على نقض الآخر وإعدامه. هما مشروع التحديث ومشروع الأسلمة. تملَّك الأول أداوت السلطة وتعددت أصواته في دائرة واسعة تضم إلى جانب الحزب الحاكم كل فئات اليسار والقوميين وبقطع النظر عن الفويرقات الداخلية بين هذا الأصوات، فإنها اتفقت على إلغاء المشروع الثاني وإقصائه وقد مارست الإقصاء بقدر تملكها للسلطة السياسية والإعلامية. بينما ظهر المشروع الثاني بعقلية الفرقة الناجية التي تلزم نفسها بهدي الآخرين إلى الحقيقة التي تتفرد بتملكها المطلق وقد عانت من الإقصاء بقدر بعدها عن السلطة. رغم كل حذلقات الخطاب السياسي ما بعد الثورة فإن هذه الفرقة تزداد عمقا وقد صرح أحد رموزها اليسارية منذ أيام بأن مشروعه الحداثي هو منع الإسلاميين من الوجود السياسي بما يعني حرمانهم من تملك وسائل الدفاع عن أنفسهم. ولا يبدو في الأفق أي احتمال وحدة على أساس الاشتراك في الوطن الواحد بين اليسار (جزء من تيار الحداثة) وبين الإسلاميين.
الفُرقة الثانية ذات طبيعة اجتماعية وتبدو كشرخ أزلي بين مكونات المجتمع الواحد طرفاها الأغنياء والفقراء دوما، وهي فرقة قديمة ولها عمق جهوي لم تخفه خطابات الوحدة السابقة بكل حذلقاتها.
تغيرت التراتبية الاجتماعية وخرج من الفقراء أغنياء أفراد بجهدهم الذاتي وخاصة بالاستفادة من منظومات الفساد في مرحلة بن علي، لكن ذلك لم يوزع الغنى والفقر بطريقة متساوية. بما وسع الشرخ الاجتماعي.
وتعاضد كل هذه الشروخ تقسيمات ثقافية بين المركز والأطراف فصلت تاريخيا ولا تزال تفصل بين المقيمين داخل السور التاريخي للعاصمة (الحاضرة ) وبين المقيمين خارجه. لقد هدم السور الحقيقي ولكن السور الرمزي الفاصل بين الحضر والآفاقيين استمر في توسيع الهوة، ورغم أن المدرسة الحديثة كسرت ذلك نظريا، لكن في البلد ثقافتان إحداهما تقصي الأخرى بلا هوادة. ويشتغل هذا الإقصاء الثقافي كإطار ابستيمي لكل المنتج الثقافي الذي عرفه البلد منذ أكثر من قرنين.
فماذا بقي لدينا من أسس الوحدة الوطنية.
الثورة كانت ضد الإقصاء بكل شروخه لكن
ربما يحق للشباب الذي أنجز الثورة السلمية الفخر بأنه في لحظة الثورة قد تجاوز هذه الشروخ وارتقى فوق الفرقة ليؤسس لمشروع وحدة وطنية حقيقية، لكن دولاب السياسة التقليدي دار بما يكسر رقي الشباب ليعيد إنتاج الخلاف. فتجلّت للعيان الكتل الأيديولوجية وعرفنا اللوبيات الاقتصادية والقطاعية المتنفذة التي أنتجت الفقر والفروق الجهوية وتعيد إنتاجهما وتأبيدهما ولم نخرج طبعا من إطار التحقير الثقافي الجهوي.
كان في رسم الثورة أن تحاسب فتعاقب أو تعفو ثم تمرّ إلى بناء وحدة وطنية على أسس العدالة والإنصاف. لكن هذا البرنامج يتعثر ويكبو وربما اندثر تحت شعارات الوحدة الوطنية المزيفة التي نسمعها الآن. بل أعتقد أن استعادة الشعار الآن يأتي ليعيد دفن المحاسبة والتعديل، وإعادة الوضع الاجتماعي والثقافي إلى ما كان عليه قبل الثورة وهو الوضع المثالي لأعداء الوحدة الوطنية المطلوبة الآن وهنا. إننا أمام سلطة ذات سوابق إجرامية في حق الوحدة تعيد تشكيل صفوفها مقابل متضررين من الفرقة والإقصاء مشتتين يتابعون المشهد بذهول وخذلان.
وإذا كان حزب النهضة (التعبيرة التي عادت السلطة 40 عاما) قد صار مؤقتا مكونا من مكوناتها في هذه المرحلة، فأعتقد أن ذلك يتم في اتجاه تذويبه نهائيا فيها لا القبول به كتعبيرة تعددية من خارجها تنافسها على الحكم. الوحدة الوطنية بهذا الشكل خديعة أخرى للأسف. وحدة مزيفة تعيد بناء نفسها على نفس الأدواء والدمامل القديمة.لتمرر. نفس المظالم الاجتماعية والتحقير الثقافي. وما حزب النهضة في هذه المرحلة إلا زينة تزول إذا أصبح صباح النظام من جديد.
تريدون الوحدة الوطنية لنظام عادل ومستقر؟
ها هي شروطها: بعد الإقرار والاعتراف بأخطاء المراحل السابقة وبالمظالم التي نتجت عنها. والتعويض عنها طبقا لمبادئ العدالة وحقوق الإنسان. بالتوازي مع تطبيق الدستور بحذافيره وخاصة منه الميز الإيجابي لصالح المفقرين. هذه بوابة عدالة اجتماعية يمكن أن يبنى عليها بلد جديد موحد ومتماسك وليس بالضرورة أخوية تأخذ بعضها بالأعناق كل صباح. في خلاف ذلك تكون الوحدة الوطنية غشا مكشوفا حتى يستقر الأمر لأصحابه القدامى كأن لم تقع ثورة. ولكن أعتقد أن الوضع اختلف تماما عن العشريات السابقة... لقد ذاق الناس طعم الحرية ولن يفرطوا ولو باسم الوحدة الوطنية. وهنا يولد أمل في وحدة وطنية جديدة ومختلفة.