كتب
الطبيب سليم حماد، الذي يعمل في وحدة الكلى في مستشفى "إينتري" في مدينة ليفربول، تقريرا في صحيفة "الغارديان"، عن رحلة قام بها إلى مدينة
غزة، حيث طلبت منه الجمعية الخيرية التي يعمل لصالحها في بريطانيا، إجراء أربع عمليات زراعة كلي في المدينة، ورغم أنه يجري العملية بشكل عادي في بريطانيا، إلا أن التجربة كانت معقدة في غزة.
ويقول حماد عن تجربته: "إن المدينة لا تبعد سوى 20 دقيقة على الأقدام، لكن عبور المنطقة الخالية بينها وبين معبر إيريز يغير كل شيء، فالدخول إلى غزة يشبه الحصول على إذن بدخول إصلاحية/ سجن للدولة، فهناك حراس وأسلحة أوتوماتيكية وكلاب وبوابات وجدار سيئ السمعة صمم لكي يبقي على 1.85 مليون غزي في الداخل، وكل شيء غير ذلك في الخارج".
ويعلق الكاتب قائلا: "إسرائيل هي بلد متقدم، وفيها بنية تحتية مثيرة ورائعة، ولديها نظام صحي ينافس المتوفر في العالم الغربي، وعلى بعد أميال في الطريق هناك قصة مختلفة، وكوني طبيبا في الخدمة الصحية الوطنية (أن أتش أس)، فإنني أعمل في مركز صحي صاخب في مدينة ليفربول، واعتدت العمل لساعات طويلة، وأملك القدرة على التعامل مع نقص الموظفين والضغوط المستمرة، ورغم هذا كله، فإنني أشعر بالفخر بأننا نقدم خدمة صحية متميزة لمرضانا في أي وقت من النهار والليل وعلى مدار الأسبوع، ولهذا السبب أردت مساعدة الناس الأقل حظا، الذين لا يتوفر لديهم هذا النظام الصحي".
ويضيف حماد: "بدأت رحلتي إلى غزة مع جمعية خيرية اسمها (مبادرة ليفربول الدولية لزراعة الكلى)، ( ليفربول إنترناشونال ترانسبلانت إنيشيتف) أو (أل آي تي آي)، التي كانت مسؤولة عن أول عملية زراعة كلى في غزة، وأجرت إلى الآن 25 عملية ناجحة هناك، وفي الطريق من الحدود إلى مستشفى الشفاء، وهو أكبر المراكز الصحية في غزة، لم أستطع تجنب رؤية البنايات نصف المدمرة والمهجورة على طول الطريق، فقد تركت حرب عام 2014 أثرا هائلا على البنية التحتية في غزة، وهناك الكثير من الناس يحاولون التعافي من هذا الأثر، ومستشفى الشفاء ذاته ليس سوى مبنى سكني كبير، ولا يشبه
المستشفيات بالمعنى الذي نعرفه في بريطانيا".
ويقول الكاتب في تقريره، الذي ترجمته "
عربي21"، عن المهمة التي جاء إلى غزة من أجلها: "مهمتنا هي إجراء أربع عمليات زراعة كلى، وكلها من متبرعين أحياء، وهم أقارب المرضى".
ويشير حماد إلى أن "العيش بحالة فشل كلوي في بريطانيا هو كفاح حتى مع توفر الدعم، المتمثل بثلاث إلى أربع أيام جلسات غسيل كلى أسبوعيا، ومواعيد منتظمة للمراقبة. ومتابعة لنظام الطعام، ووجود ممرضين متخصصين، والتحكم بمستوى الدم، والنقل إلى المستشفى، أما في غزة، فالعيش بفشل كلوي مستحيل، فالمعاناة من فشل الكلى يعني موتا مبكرا، فمراكز غسيل الكلي قليلة، ولا تقدم الدعم والعناية للأعداد التي تتعامل معها المراكز في بريطانيا، وهذا يعني أن المرضى قد لا يتمكنون من
غسيل الكلى إلا مرة أو مرتين في الأسبوع، ما يضع ضغوطا كبيرة على الجسد، ويترك المرضى في أوضاع معيشية سيئة".
ويضيف الكاتب: "كان أول مريض نجري له عملية امرأة في العام الـ27 من عمرها، حيث كان شقيقها سيتبرع لها، ونقلت إلى المستشفى قبل ثلاثة أيام من وصولنا، وكانت تعاني من التهاب رئوي، وعندما كانت تتحدث إلينا لم تكن قادرة على التنفس، وكان واضحا أن هذه الشابة لا تصلح لإجراء العملية خلال هذه الرحلة، فقد كان جسدها لا يزال يقاوم الالتهاب الرئوي، وتعريضها لعملية كبيرة، وتقليل قدرة نظام المناعة لها، ليس قرارا حكيما، ففي ليفربول يتلقى المريض مضادات حيوية، ويتم تصحيح حالة فقر الدم عنده؛ ليكون جاهزا لزراعة كلى في غضون ستة أسابيع. ولسوء الحظ فهذا ليس هو الوضع في غزة، وأشك إن كانت هذه الشابة ستظل على قيد الحياة بعد عودتنا للمرة القادمة".
ويلفت حماد إلى أن " توقف التيار الكهربائي، الذي يستمر أحيانا لساعات طويلة، يقطع وتيرة الحياة، وبشكل متكرر، وعادة ما تكون لدى المستشفيات مولداتها الخاصة؛ للحصول منها على الطاقة الكهربائية، وفي الحقيقة هذا ليس هو الحال دائما، ففي أثناء إحدى عمليات الزراعة التي كنا نقوم بها خيم الظلام على غرفة العمليات، وصدرت التأوهات المعروفة من الأطباء الغزيين، ووقفت متسمرا وصامتا قدر الإمكان، خاصة أنني لم أتعود انقطاع التيار في منتصف العملية، وانتظرت عودة المولد للعمل".
ويقول الكاتب عن وحدة غسيل الكلى في مستشفى الشفاء إنها "لا تشبه ما هو موجود في بريطانيا، وفيها أربع غرف، في كل غرفة 12 جهاز غسيل قديما، وفي كل غرفة ممرض يجري بين المرضى، حيث يحاول التأكد من استمرار جلسة الغسيل، ويقول ممرض إنهم يقسمون الشاش إلى أربعة أقسام حتى يكفي المرضى، وهذا أمر لا يحدث أبدا في بريطانيا، وأخبرني المريض أحمد (13 عاما) كيف يستأجر سيارة للوصول إلى مركز غسيل الكلى ثلاث مرات في الأسبوع، وهو ما يكلف عائلته 18 جنيها إسترلينيا في كل جلسة، وفي منطقة ترتفع فيها نسبة البطالة إلى 50%، فإن هذا وضع لا تحتمله العائلة".
ويستدرك حماد بأنه "مع هذا كله، فإن المدهش في أهل غزة هو قدرتهم على البقاء إيجابيين ومتحمسين رغم ما مروا به، فلو كان عمرك ستة أعوام في غزة فإنك قد مررت بثلاث حروب. ذهبنا إلى بلدة الشجاعية، التي تقع شرق المدينة، وهي منطقة سويت بالتراب أثناء حرب 2014. ومن المدهش كيف تقدمت البلدة، وعادت علامات الحياة للمنطقة، وعبر الأطفال عن روحهم المثيرة للإعجاب، يلعبون بين أنقاض البيوت، ويقفزون من شجرة إلى أخرى، خالقين روحا من الشقاوة، فيما يعمل الكبار على إعادة تعمير البيوت".
ويقول الكاتب: "في صباح اليوم الذي كنا سنغادر فيه، علمت عن فرض عقود على الأطباء الجدد في إنجلترا، ولكن أسبوعا في غزة أعاد لي التأكيد أن (أن أتش أس) كانت منظمة خارقة تقدم خدمة صحية على أعلى المستويات، وهي خدمات مجانية للجميع، في حين يحتاج سكان القطاع، وبشكل ملح، لأبسط الخدمات الطبية، وهم مستعدون لتقديم كل شيء من أجل الخدمات".
ويختم الطبيب حماد تقريره بالقول: "إن نظامنا الصحي دائما محل للتدقيق، وطاقمنا يعمل بلا كلل، وتتم العناية بمرضانا، ونقدم لهم أفضل ما عندنا في الأوقات كلها، ويجب أن نعمل جهدنا لحماية (أن اتش أس)، فإن وجودها يعني أننا محظوظون أكثر مما نعرف".