"ما من حكومة عادلة تأمن المسؤولية والمؤاخذة بسبب غفلة الأمّة أو التَّمكُّن من إغفالها إلاّ وتُسارع إلى التَّلبُّس بصفة
الاستبداد، وبعد أنْ تتمكَّن فيه لا تتركه وفي خدمتها إحدى الوسيلتين العظيمتين: جهالة الأمَّة، والجنود المنظَّمة".
عبارة أطلقها المفكر السوري عبد الرحمن
الكواكبي في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، وهو أبرز ما أُضيف للمكتبة العربية في القرن التاسع عشر، فيما يتعلق بالحديث عن الاستبداد السياسي، وهي عبارة وجيزة بليغة، تُجسّد عوامل الاستبداد ومقومات وجوده.
*الحكم الاستبدادي الديكتاتوري في الأصل يصطدم بالفطرة البشرية النازعة إلى الحرية والاستقلالية؛ ولذلك ليس من الطبيعي أن يستمر الحكم بهذا الشكل الاستبدادي دون أن يكون له مادة حياة تُمكّنه من البقاء في سدة الحكم وقيادة الشعب.
والقرآن الكريم قد اعتنى ببيان طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم في ظل الأنظمة الديكتاتورية، وأوضح ما يكون من مثال، هو التناول القرآني لفرعون موسى وطبيعة نظامه الديكتاتوري، والعلاقة بينه وبين مكونات المجتمع.
وباستقراء سُوَر القرآن الكريم وآياته التي تتناول هذا الشأن، تبرز للناظرين فئتان في المجتمع، هما من يصنع
الفرعون، ويمُدّان عرشه بالحياة والبقاء.
الفئة الأولى: الملأ
وهم الذين عرّفهم الدكتور عبد الكريم زيدان في كتابه "أصول الدعوة" بأنهم "البارزون في المجتمع وأصحاب النفوذ فيه الذين يعدّهم الناس أشرافا وسادة، أو يُعدّون حسب مفاهيم المجتمع وقِيمه أشراف المجتمع وسادته، ومن ثم يستحقون -في عُرف الناس- قيادة المجتمع والزعامة والرئاسة فيه".
ثم يذكر توضيحا هاما لهذا التعريف بقوله: "وإطلاق كلمة الملأ على هؤلاء في القرآن الكريم بهذا المعنى، هو من قبيل بيان الواقع لا من قبيل بيان استحقاقهم فعلا للشرف والسيادة والقيادة والرئاسة".
*هذه الفئة تُعدّ الوجه الجماهيري للحاكم، وحلقة الوصل بينه وبين الشعب، تروج له بينهم، وتكوّن وتشكل الرأي العام الذي يخدم توجه النظام، وتعمل دائما على بقائه؛ ذلك لأن المُنتمين إلى هذه الفئة هم المُنتفعون بوجود النظام، حيث يضمن لهم ذلك السطوة والقوة والنفوذ.
والملأ دائما أعداء كل دعوة إصلاحية تأخذ السمة الشعبية وتنبع من داخل المجتمع؛ لأنها تنشأ غالبا من وجود خلل في إدارة الدولة ينعكس على حياة المجتمع الاقتصادية أو الفكرية أو السياسية...
ويندفع هؤلاء الملأ في التصدّي للدعوات
الإصلاحية؛ خوفا على نفوذهم وسطوتهم وهيبتهم؛ لذا يتحركون على عدة محاور لقمع التوجهات الإصلاحية.
فعن طريق نقل صورة مغلوطة عن الواقع للحاكم تارّة...
وتزيين ضرورة انتهاج السياسات القمعية للحاكم في التعامل مع الجماهير تارة...
وتعبئة وحشد أنصارهم ضد الإصلاحيين تارة...
وتهيئة الرأي العام بالأبواق الدعائية لتقبّل فكرة القمع واستحقاق البطش تارة أخرى...
أو كل ذلك في آن واحد.
الفئة الثانية: السفهاء..
ويمثلون الرافد الثاني لبقاء النظام الدكتاتوري، وأعني بلفظة السفهاء مقصودها اللغوي، وهو الجهل بمواضع النفع والضرر.
والمُنتمون إلى هذه الفئة هم البسطاء الذين تقتصر تطلعاتهم في التغيير على تحقيق الحاجات الأولية في هرم الدوافع الإنسانية، وفق نظرية ماسلو، وهي الحاجات الفسيولوجية والحاجة إلى الأمان.
وهؤلاء يخاطبهم الفرعون دائما بالطرْق على احتياجاتهم الأساسية، ويسْهُل عليه أن يستميلهم بذلك: {أليس لي مُلك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي}.
كما يعتمد الفرعون على بساطة المُنتمين إلى هذه الفئة في تقرير باطله، ولو خالف العقل والمنطق، لعلمه أن هؤلاء غالبا يفتقدون القدرة على التفنيد، ولعلمه كذلك أنهم يتحركون بدغدغة العاطفة، فيسهُل عليه أن يخاطبهم بقوله {أنا ربكم الأعلى}، {أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين}.
فيدين هؤلاء بالطاعة للفرعون بعد أن يستخفّ بعقولهم، ويصوّر لهم الباطل حقا والحق باطلا، {فاستخف قومه فأطاعوه}.
وخطورة هذه الفئة المُغيّبة تكمن في أنها تصير ظهيرا شعبيا للحاكم الطاغية؛ حيث ينطلق أصحابها -مدفوعين برؤية مشوهة صنعها النظام- في التصدي للتوجّهات الإصلاحية، التي هي في حسّهم زعزعة للاستقرار والأمن.
*هذا الظهير الشعبي يُعوّل عليه الفرعون في شرعنة استبداده ودكتاتوريته، فأي نظام مهما كانت قوته لا يطول أمده في حكم شعب قد انعقد إجماعه وتوحدت رؤاه في ضرورة إزالة من يحكمه، فهذا في حكم المستحيل، إلا إن تمكّن من صُنع ظهير شعبي يؤيده.
*هذه المعطيات تفرض على أي توجه إصلاحي أن يعمل على إزالة أو إضعاف تأثير النظام المستبد ومعه الملأ على الجماهير المُغيّبة، وهذا بالطبع له مستلزماته وآلياته:
يتطلب الأمر انصهار الإصلاحيين مع هذه الفئة، وكسب ثقتها، وكسر كل حاجز يحول دون الوصول إليها، ومعايشتها وعدم الانعزال عنها.
ويتطلب الأمر إصلاح الرؤى والتصورات والمفاهيم، وهو أمر يأتي بالجهود التراكمية عبر أجيال يسلم كل منها إلى الآخر.
ويتطلب الأمر تجميع هذه الجماهير على فكرة مركزية واحدة مقبولة تتعلق بهويتهم، وبفكرة أخرى محفزة تتعلق بأمورهم الحياتية والمعيشية.
*إن كثيرا من التوجهات الإصلاحية تخفق في مشروعها؛ لأنها تتخيل إمكانية الصدام مع الفرعون والملأ بمعزل عن الجماهير، فتلك الجماهير حتما ستكون تحت إحدى الرايتين، بل لا بد لهذه التوجهات الإصلاحية من حاضنة شعبية تؤيدها وتؤازرها وتؤويها.
وتخفق في مشروعها عندما تتجه لتغيير الفرعون دون أن تلتفت إلى تقديم حلول عملية للجماهير العريضة تنعكس على أمورهم الحياتية، فمن الخطأ أن يتصور القائمون بالإصلاح أن نظرتهم العميقة للتغيير تنسحب على الجماهير البسيطة التي لا يعنيها سوى وجود أوضاع تعود عليهم بالنفع الملموس المتعلق باحتياجاتهم.
ولن يتمكن أي توجه إصلاحي من التغيير إلا إذا جعل من هذا التغيير همّا يساور غالبية الجماهير، يحلمون به ويعملون على رؤيته في الواقع.
نعم، عنصر الزمن لن يكون في صالح هذه التوجهات الإصلاحية..
نعم، ستواجه العراقيل والعقبات التي يضعها الفرعون والملأ..
نعم، ستفتقر حتما لكثير من مقومات القوة وأدوات التغيير مقارنة بالنظام..
ولكن هذا شأن التغيير، طريق طويل شاق مليء بالعقبات؛ لذا لا يسلكه سوى أصحاب الهمم العالية، الذين يشعرون بحجم الواقع ومتطلبات التغيير وضروراته.