كتاب عربي 21

إشكالات ما بعد الاستبداد.. تفكّك المؤسسات (1)

1300x600
ما يقرره الواقع على مدى الزمان أن الاستبداد الذي يستشري في المجتمعات يسير في كل لحظة من لحظات وجوده إلى ساعة فنائه وانقضائه، حتى لو تخلل تلك الفترات استتباب للحكم وتثبيت لأركانه، فإن ذلك مُنْقَضٌّ لا محالة، فإشكال الاستبداد في فترة وجوده وبالتحديد في طولها؛ لأن ما يترتب على بقائه يحتاج لحينٍ حتى يذهب أثره، أما ذات الاستبداد فإلى زوال لا ريب؛ لأن النفوس مهما ذُلّت فإنها مَجْبُولة على الانتصاف من الاعتساف.

فإذا كان الاستبداد زائلا، وما خلّفه باقيا، تعيّن النظر إلى وجوه إفساده وكيفية إزالة ما أحدثه من ضرر، وذلك بإزاء البحث في وجوه إضعاف المستبد وإقصائه، لا يتخلف أحد الأمرين عن الآخر؛ إذ الإسقاط دون تصور "فعّال ومقبول ومحكم" لما بعده يتيح لقوى المستبد لملمة أوضاعها، وبالمقابل مجرد النظر فيما أحدثه دون السعي لإزاحته، يبقى في دائرة الأماني والتَّحَسُّر، فالمُتعَيَّن توازن وجوه الطلب في تصويب وسائل الحكم والإدارة.

إن خروقات المستبد في جدار الدولة تتعدد وجوهها فيما بين المؤسسات والأفراد، وما بين العمْد منها لأجل صرف الهم الوطني عن أصل الإشكال -وهو فساده وانفراده بالحكم-، وخروقات أخرى لا يقصدها بذاتها بل تحصّلت بالتبعية لما أحدثه المستبد من نصوص وتوجيهات أراد بها تحصين هشاشة مقرّه، والبحث في كل ذلك يحتاج لمن هو أجدر وأقدر من كاتب السطور، لصيانة السلطان عن الاستبداد والانحراف.

ما حدث في الدولة المصرية من عمليات فساد وإفساد كان إيذانا بتفكيك مؤسساتها، والحاصل أن منها ما يؤثر في غيرها من المؤسسات نظرا لقوتها، ومنها التابع الذي ينهض ويتردّى وفقا لحالة السلطة، وأقوى المؤسسات على الإطلاق في العقود الأخيرة بمصر هي المؤسسة العسكرية.
عقب تولي محمد علي الحكم 1805م شرع في توجهه نحو الاهتداء بالحضارة الأوروبية الصاعدة، تزامنا مع الثورة الصناعية هناك، فأرسل البعثات وبنى المصانع والمدارس العليا (الكليات) وأدخل مصر في عملية تحديث طموحة، إلا أن ذلك لم يتوجه للمجتمع بشكل خالص، بل كان لأجل بناء جيشه الذي سعى به لإخضاع أقاليم أخرى لحكمه، ثم انكسر ذلك المشروع في 1840م.

شكّل محمد علي في 1820م مدرسة حربية بأسوان وبعد ثلاث سنوات كان الملتحقون بها نواة ضباط الجيش المصري، ودربهم سليمان باشا الفرنساوي، وهو ضابط فرنسي قدم مع الحملة الفرنسية وبقي في مصر بعد إسلامه، ثم أنشأ "علي" مدرسة أخرى ببني عدي بأسيوط 1823م وألحق بها الآلاف، ليصير لديه بعد عام واحد خمسة وعشرين ألف جندي، وزاد ذلك العدد ليصير 236 ألف ضابط وجندي في إحصاء 1839م، وقد بدت قوة الجيش في انتصارات محمد علي على الدولة العثمانية بالشام والاقتراب من الأستانة 1833م.

ظل الجيش المصري ممتثلا للإرادة السياسية لإدارة الحكم في مصر حتى خرجت الثورة العرابية في شوال 1298هـ/ سبتمبر 1881م، لكن الملاحظة أن حركة الجيش كانت لأجل المجتمع "الذي يتشكل منه"، بمطالب لإجراء إصلاحات سياسية ودستورية بالبلاد، ونجحت الحركة في إسقاط الوزارة "وزارة رياض باشا" وبدأت في تشكيل دستور جديد، لكن تم العصف بما تم إنجازه عقب التدخل الإنجليزي وانحيازه للخديوي، فتم نفي قيادات الجيش التي شاركت في تلك الحركة، وتم تأميم الإصلاح السياسي، ودخول البلاد في نفق الاحتلال لأربع وسبعين عاما.

احتاجت المؤسسة العسكرية المصرية لسبعين عاما كاملة حتى تخرج للمشهد مرة أخرى، وقامت بعد ما يقارب 130 عاما من إنشائها بانقلاب عسكري، وسيطرت المؤسسة "الناشئة بالدولة" على البلاد بقوة السلاح، ولم تقدر الجهات الأهلية من إحداث ذلك التغيير، ثم رفعت تلك المؤسسة الناشئة شعارات التحرر الوطني من العدوان الخارجي وكذلك الاستبداد الداخلي، واستطاعت حركة الجيش في 1952م من القبض تماما على سلطة البلاد بخلاف الحركة السابقة، إلا أن القابضين على السلطة في النصف الثاني من القرن العشرين بدّلوا استبداد الأسرة الحاكمة لاستبداد الفئة الحاكمة، فانتقل الحكم من طبقة اجتماعية لأخرى فئوية، راعت مصلحة أهل المهنة الواحدة "الفئة الحاكمة" دون غيرها، وانتقل الحكم من انفراد الخديوي بالحكم مع صلاحيات شكلية للبرلمان، ودستور مقبول -1923م- وحياة اجتماعية ومؤسسات أهلية معتبرة، إلى انفراد الرئيس دون حياة نيابية ولا دستور يحفظ الحقوق ويصون الكرامة ولا مجتمع أهلي يقدر على مجرد المناقشة حتى في الهزيمة والنكبات. شاركت المؤسسة المسلحة بشكل مباشر في إدارة شؤون حكم المدنيين العزّل، رغم ما تقتضيه الطبيعتان المدنية والعسكرية من تغاير، وما تقتضيه القوّتان من تنافر، فحدثت آثار سلبية بالوطن لا يزال يعاني منها حتى الآن، وبدأ مع انفراد تلك الفئة وشعورها بتميزها تفكّك حصون صيانتها من الزيغ، ولحقها تفكك مؤسسات أخرى لا تقل عنها أهمية.
يتبع..