اندفعت
روسيا في مغامرتها العابرة للحدود منطلقة من دوافع جيوستراتيجية في أغلبها، لتثبت للغرب أنها ما زالت لاعبا قويا، وللمحافظة على مصالحها القديمة في الشرق الأوسط،، وللتفاوض على أوكرانيا من البوابة الدمشقية، ولحماية الأرثوذكس المسيحيين كغطاء ديني جلبا لدعم الكنيسة. وحاولت روسيا أن تضع سقفا لتدخلها تحت قاعدة التفريق بين التدخل والتورط، أي أنها تتدحل لكن لا تتورط، بمعنى عدم الزج بأعداد معتبرة من الجنود والمعدات العسكرية، ولكن التدخل ضمن سقف أقل من سقف التورط.
تتدحرج الأحداث منذ التدخل الروسي في
سوريا في 30 أيلول/ سبتمبر 2015، وكان غطاء التدخل الروسي قائما على محاربة داعش، ذاك الجسم الغريب الذي صُور على أنه المليك القادم. وحقيقة الأمر أن الخطة الروسية قائمة على سحق وقتل الوريث، وهو المجموعات المعارضة الإسلامية بكل أطيافها وأشكالها وأماكن تواجدها، لضمان عدم وجود أي وريث بصبغة تدعي أنها إسلامية، وترك المليك إلى إشعار آخر، أو ترك أمر قتله لمرتزق آخر.
هلّلت الولايات المتحدة الأمريكية في سرها لهذا التدخل، فهو فرصة تاريخية لتوريط الروس وإغراقهم في متاهات الشرق الأوسط، ومزيد من العقوبات عليهم، وتخفيض لسعر النفط إلى حد الأزمة أو الانهيار الاقتصادي للمارد الروسي الصاعد بعد الحرب الباردة والذي يود استعادة مجد قديم. كما أن الولايات المتحدة لا تخفي سعادتها بقيام الروس بقتل الوريث والتخلص منه وتنفيذ الجريمة بأيد روسية متحمسة وبأيد إيرانية تحضن بين ذراعيها حسرة صلح معاوية والحسن (كما عبر عنه مؤخرا قائد الباسيج).
كان من المتوقع صمود المعارضة (الوريث) لتوريط الروس أكثر وأكثر، ولكن استمرار تفرق المعارضة وعدم وحدتهم وتنازعهم، في ظل القصف الروسي البربري، لم يساعد في دفع الروس إلى حافة الهاوية، فالتقط الأمريكان حالة العجز المزمنة عند الوريث (ومعروف عن الأمريكان قدرتهم على العمل في البيئات المضطربة حيث يصعب فيها القدرة على الجزم وتزداد الضبابية وتضعف القدرة على التنبؤ). استغل الأمريكان ذلك من خلال التكيف السريع مع الموقف، ووضع السيناريوهات المتوقعة ومعالجتها، وركوب الموجة لتحقيق مآربهم الاستراتيجية ليمهلوا الروس إلى حين الانتهاء والإجهاز على الوريث، ليتم الترتيب للقضاء على داعش المليك الموهوم، ولكن هذه المرة يبدو أنه سيكون بأيد عربية صرفة.
اقتل الوريث قبل المليك... ما زالت تعمل في ليبيا، حيث محاولة صنع المليك ما زالت مستمرة، وفي ذات الوقت محاولة قتل الوريث. فما أن يتم الانتهاء من صنع المليك حتى تصدر شهادتان، شهادة تحدد تاريخ انتهاء صلاحية المليك المفبرك وشهادة دفن الوريث.
اقتل الوريث قبل المليك... لم تنجز بعد في اليمن. يظهر المنافس الإيراني بكل وضوح بثوب حوثي، فيظن القوم أنهم قادرون على الإجهاز عليه. ولكن يبدو أن فبركة المليك ستتأخر إلى حين الإجهاز على الوريث. أما في مصر فهي ليست من قوم اليمن ولا قوم ليبيا، ولا قوم سوريا منها ببعيد، حيث أجهز على الوريث من وقت قريب.
قوم يضيعون ويتيهون بين مليك مصنوع وورثة متشاكسون لا يجمعهم سفك دم، ولا هتك عرض، ولا تدمير قرى ومدن، ولا دين جامع ولا لغة واحدة، ولا صرخات المستضعفين تحت الأنقاض، ولا استغاثات الغرقى من الأطفال والنساء. ورثة يجيدون فن الخلاف والاقتتال ولا يعرفون أدنى مبادئ الاتفاق، ورثة بارعون في تبرير نزاعاتهم وفاشلون في جمع كلمتهم، تراهم بعد المصيبة يتكالبون على أنقاض تفاهم فلا يكادون يجدوه. فويل للعرب من أيام يذبح فيها الوريث، ويجهّز فيها كفن المليك قبل صنعه، وتتكالب عليهم الأمم كما تتكالب الأكلة على قصعتها.
والسؤال المطروح على مستوى الشارع العربي والوريث وربما الثلة الحاكمة: ما الحل؟
هناك حقيقتان من مجموع الحقائق المعنية. الأولى، أن الأغلبية تتغنى بالوحدة العربية أو الاسلامية، فنتساءل مثلا: أين العرب؟ أين المسلمون؟ لأننا تربينا واعتدنا أن نكون أمة واحدة شعوريا، حيث تجمعنا الشروط النظرية لتشكيل الأمة. ولكن الحقيقة الثانية أننا لسنا أمة واحدة بالمفهوم السياسي السيادي، بمعنى أنه لا توجد قدرة أو إرادة سياسية واحدة تحرك وتقود هذا الأمة، فنحن عمليا مجموعة من الدول ذات كيانات سياسية مستقلة عن الأخرى، كما كانت كيانات الأندلس، وبالتالي فقدنا القدرات التنافسية لنا كأمة، وتحولت القدرات الاستراتيجية للأمة إلى "قديرات" استراتيجية متناثرة ضعيفة تتحكم بها ثلة، وتحول كل من يريد الخير لهذه الكيانات الصغرى إلى وريث ينادى عليه "اقتل الوريث قبل المليك". في نفس الوقت لا يوجد في الأفق القريب ولا المتوسط بارقة أمل حقيقية ذات بعد استراتيجي ممكن البناء عليها لتصحيح الوضع، خصوصا تحت ظل التركيبة السياسية لكل دولة عربية.
ويمكن القول إن الدويلات العربية الحالية فاقدة للسيادة التي تمكنها من المناورة السياسية خارج حدودها. كما أنه بمكن القول إن حق ملكية الأرض وحق التصرف السيادي فيها أصبح مفقودا في بعض الدول العربية، إضافة إلى أن حق التصرف السيادي الخارجي أصبح لمعظم الدول العربية مفقودا، بل لا تملكه. نعم فُقدت السيادة ووقع الكثيرون في التحذير الذي حذر به الله تعالى. فلقد كرر الله سبحانه قوله "ويحذركم الله نفسه"، أي أن الله جل جلاله بذاته وبنفسه يحذر، وجاء ذلك في موضعين متتاليين في كتابه الكريم في سورة آل عمران، ولم يكن التحذير من الكفر أو الشرك أو ترك الصلاة على خطورة كل ذلك، ولكن التحذير الإلهي جاء في موضع تولية غير المؤمنين كأولياء: (لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّـهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّـهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّـهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّـهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّـهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّـهُ نَفْسَهُ). إن التولية لغير المؤمنين تؤدي إلى فقد السيادة وفقد القدرة على المناورة الاستراتيجية في المحيط الخارجي، وفقد التحكم بالميزات التنافسية، وبالتالي تُوصل إلى ضعف السيطرة وتنفيذ مناورات تفيد أجندة المنافسين الخارجيين واللاعبين الكبار، وتؤدي للقبول بأمر الواقع تمهيدا للانتقال إلى التفكك الداخلي.
إذا نحن كأمة في مأزق عظيم لا ينفع معه التغني بأمجاد الماضي، ولا التأمل والدعوة إلى التفاؤل كإبر مهدئة، إذ إن الأمر جد خطير، بل خرج عن السيطرة كما في سوريا وغيرها. ولكن الأمل بالله يبقى الملاذ، فسنن الله لا تحابي أحدا. فلن تحابي من لم يقف مع الآخرين كالبنيان المرصوص، ولن تحابي اولئك الذين دُعوا لينفقوا في سبيل الله ويعينوا المستضعفين فتولّوا، ولا أولئك الذين تولّوا الخصوم أو يبتغون عندهم العزّة، ولاأولئك الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا، ولا أولئك الذين تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم والبينة. إنها سنة الاستبدال، فلينظر كل محب ومخلص لأمته إلى موقعه، وليكن في جنب الله فهو الحافظ من الدوائر، وليتجمع أهل الخير ويعاضدوا بعضهم ما استطاعوا، إلى أن يأتي فتح من الله أو أمر من عنده.
أما على مستوى النخب الحاكمة، فإن أولى الخطوات هي تحديد استراتيجية ذاتية مستقلة لكل كيان بعيدا عن مصالح القوى الكبرى في المنطقة (وإن كان من الممكن مراعاة مصالحها ولكن بحذر وبكل استقلالية)، وبالتالي تتشكل استراتيجيات وطنية ذات سيادة حقيقية بعيدا عن ظلال وأجندة استراتيجية القوى الدولية خصوصا الأمريكية منها. وتعمل هذه الاستراتيجيات المستقلة بعيدا عن الهيمنة الخارجية، ولصالح دولها ولصالح الأمة التي لا يستطيع أي حاكم أن ينفك عنها، لأسباب جيواستراتيجية عديدة. ومن ثم تتقدم النخب الحاكمة بكل جرأة نحو قيم وطنية حقيقية تتصالح فيها مع شعوبها التي ما تخلت يوما عن أوطانها، وعندها تلتحم الشعوب المعطاءة باستراتيجة دولها السيادية لترفع الظلم الواقع وتوقف التدهور الهائل في الأمة وصولا للعزة المفقودة منذ عقود.