نستعرض بشكل سريع؛ ليس عميقا بالتأكيد؛ معا في عدة مقالات متتابعة واحدة من أهم الثورات في العصر الحديث؛ وبصرف النظر عن العداء الاستراتيجي مع منتج الثورة
الإيرانية والذي سنحاول الوصول إليه خلال رحلتنا مع تلك الثورة؛ إلا أن هذا العداء لا يمنع كونها واحدة من النماذج الثورية الملهمة لأي حالة ثورية.
وقبل الحديث عن الثورة "الإسلامية" في سبعينيات
القرن العشرين؛ ينبغي الرجوع إلى الثورة الأولى التي حدثت في بدايات القرن العشرين والتي تسمى بالثورة الدستورية. ولا يمكن الحديث عن الثورة قبل الحديث عن التركيبة الاجتماعية والسياسية للمجتمع الإيراني في تلك الفترة.
لم تكن إيران قبل القرن الرابع عشر الهجري كإيران الحالية، فقد كانت أكثر اتساعا؛ فكانت بلوجستان وأفغانستان والأراضي التي استولت عليها
روسيا جزءا من الإمبراطورية (مدخل في حضارة إيران قبل الإسلام؛ د. بديع محمد جمعة ص3)، وفي بدايات القرن العشرين، كانت بريطانيا وروسيا تقتسمان جنوب وشمال إيران، وبينما يقتسم الطرفان إيران كان المجتمع الإيراني المتعدد العرقيات يعاني من الفقر في أغلبه؛ فنجد الفرس في المركز، والعرب والبلوشستان والأوزبك والأكراد والترك موزعين على حدود إيران؛ وبالنظر إلى التضاريس شديدة الوعورة لإيران والاختلاف العرقي الواسع والمساحات المترامية الأطراف؛ نجد صعوبة السيطرة المركزية على الأطراف، وبالتالي قلت سيطرة المركز، بل وفقدت فعليا السيطرة عليها.
ومن الناحية الاجتماعية؛ كان المجتمع الإيراني يتكون من أربع طبقات شديدة التميز، فقد تكون المجتمع الإيراني في مطلع القرن الحالي من أربع طبقات أمكن رصدها وملاحظتها بوضوح؛ بحيث شكلت الطبقة الأرستقراطية أعلى قمة الهرم السكاني. وشملت هذه الطبقة الحكام وأسرهم، وملاك الإقطاعيات، وكبار الموظفين والعسكريين، بالإضافة إلى النخب المحلية. والطبقة الثانية وهي الطبقة الوسطى، وتتشكل من تجار المدن، وملاك الأراضي الصغيرة، وأصحاب الحوانيت والمشاغل الحرفية، وترجع أهمية الطبقة الوسطى في إيران تحديدا إلى أنها الممول الرئيسي للمنظومة الدينية الشيعية (إيران بين ثورتين، د. آمال السبكي ص9)، أما الطبقة الثالثة فهم من يملكون مصدرا للدخل من نتاج عملهم المباشر سواء العمال أو الخدم أو السماسرة، والطبقة الرابعة هم المعدمون من جماهير القبائل أو البدو الرحل والمزارعون الأجراء. هذا الوضع الطبقي المستقر في إيران منذ ما قبل الميلاد لم يعد مقبولا مع ازدياد حدة الفوارق الطبقية، وزيادة الفساد، وأيضا ظروف الاحتلال الروسي لأقاليم الشمال سمرقند وطشقند وبخارى (تاريخ إيران السياسي، ج3 ص 274).
وعلى الجانب الاقتصادي، عانى الاقتصاد الإيراني من التدهور نتيجة السيطرة الغربية والامتيازات التي منحت للأجانب وخاصة للروس. أدى كل ذلك إلى تزايد الغضب وخاصة مع اضطهاد الأقليات الموجودة في إيران. ويبدو أن الثورة الروسية في عام 1905 كان لها تأثير كبير على المجتمع الإيراني نظرا للتقارب الجغرافي والحضاري بين الإمبراطوريتين. فاندلعت الثورة في عام 1906 بإيران وخاصة العاصمة طهران. وعلى الرغم من وجود مجتمع قبلي عرقي في إيران، وبالرغم من الانطباع المبدئي بصعوبة ممارسة استبداد المركز في المجتمع القبلي، إلا أن الفساد داخل رؤوس القبائل وارتباطها بالسلطة المركزية الإقطاعية أدى إلى ضياع تلك الميزة الهامة في تركيبة المجتمع الإيراني، فلم يكن للنظام القبلي دور في
الثورة الدستورية.
قاد الثورة الدستورية رجال الدين وعلى رأسهم آية الله الطبطبائي (تاريخ إيران السياسي، جزء 3 ص 308) بمساعدة طبقة التجار في العاصمة طهران والتي كانت تسيطر إلى حد كبير على التجارة في إيران؛ والتجار كانوا على علاقة وثيقة برجال الدين الشيعة في إيران ومسؤولين إلى حد ما عن تمويل المؤسسة الدينية.
بعد هذا العرض المبتسر نجد بعض مقدمات الثورة متحققة من حيث الفساد الكبير بالنظام الحاكم وانفصاله التام عن المجتمع مما يؤدي إلى زيادة الغضب، وأيضا وجود قطاع من المجتمع له مصالح متعارضة مع النظام الحاكم، وكانت الطبقة الوسطى البرجوازية مع رجال الدين الشيعي الذين أعلنوا أن الحكام الإيرانيين أشبه بيزيد بن معاوية في إشارة "دينية" بزوال شرعيتهم (إيران بين ثورتين؛ د.آمال السبكي ص 29)، ووجود قيادات للثورة متمثلة في آية الله الطبطبائي ورفاقه؛ ووجود سبب ما أدى إلى عجز النظام عن استخدام القوة الباطشة ضد الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت عدة مدن إيرانية وخاصة طهران. إلا أن هناك نقطة غائبة في تلك الموجة الأولى ألا وهي غياب الإطار الفكري "الأيديولوجي" حيث كان من أهداف الثورة إنشاء حياة دستورية.
إن الإصرار الكبير من المتظاهرين على الاستمرار في الحالة الثورية كان له دور في تحقيق الثورة مرحليا هدفها الموافقة على إصدار دستور؛ إلا أن الصراع الدولي في إيران بين البريطانيين والروس والإمبراطورية العثمانية كان سببا في إفشال تلك الثورة؛ ومن الجدير بالذكر أن ساحة السفارة البريطانية كانت ملجأ للثوار في تلك الفترة (تاريخ إيران السياسي، ص 314).
فشلت الثورة الأولى لأسباب متعددة ومعقدة؛ وفي المقال التالي سنستعرض كيف سارت أحداث الثورة وانتهاؤها نهاية مأساوية بقصف مجلس النواب الإيراني؛ ثم التدخل الروسي للقضاء تماما على الثورة.