تقول إميلي كرين لين في مجلة "فورين بوليسي" إن نظام الرئيس عبد الفتاح
السيسي تنازل عن
الاقتصاد المصري للجيش؛ حتى تظل هذه المؤسسة راضية عنه.
وتضيف الكاتبة في تقرير نشرته المجلة أن "السيسي لا يزال يتمتع بشعبية منذ توليه السلطة قبل عامين؛ وهذا راجع لسياسته المتشددة مع الإسلاميين، ووعوده بإنشاء مشاريع ضخمة، وسيطرته على الآلة الإعلامية وخطابها في البلاد. لكن الدعم الشعبي عادة ما يتسم بالتقلب، وعلى خلاف نظام حسني مبارك الشمولي ومن سبقوه، فإن السيسي ليس لديه نظام سياسي لتعبئة الجماهير نيابة عنه، وفي الحقيقة فلا يوجد للسيسي أي مؤسسة سياسية تقف وراءه، فصعوده على ظهر انقلاب شعبي لم يعطه الفرصة لإنشاء حزب سياسي".
ويستدرك التقرير بأنه رغم أن البرلمان الجديد يمتلئ بالمؤيدين للسيسي، إلا أن أيا منهم لم يرشح نفسه من خلال حزب، ولم يتجمعوا بعد في تحالف يحظى بمصداقية، بطريقة تشبه الحزب الوطني الديمقراطي، الذي كان يترأسه مبارك من قبل.
وتشير المجلة إلى أن السيسي ليس لديه حلفاء سياسيون يمكنه الاعتماد عليهم عندما تزداد الأمور شدة، ولا يستطيع التعويل على برلمانه، مبينة أن السيسي ليس لديه سوى مؤسسة قادرة على حمايته وتأمين مستقبله، وهي القوات المصرية المسلحة.
وتنقل كرين لين عن المحاضر في جامعة القاهرة أحمد عبد ربه، قوله: "سياسيا، يحتاج السيسي إلى
الجيش"، ويضيف أن الرئيس "ليست لديه مؤسسة سياسية، والجيش هو المؤسسة الوحيدة التي تمنحه الشرعية، وأصبح الجيش مؤسسة سياسية بحد ذاتها"، وهو ما يريده الجيش في الوقت الحالي، حيث تحول الجيش إلى المؤسسة السياسية الوحيدة المتوفرة للسيسي. ومقابل تقديم الولاء له، كان المطلب واضحا، وهو السيطرة على الاقتصاد المصري، بشرط أن يكون الجيش متحررا من القوانين التي تغطي عمل المؤسسات المدنية، وهو ما فعله السيسي.
ويلفت التقرير إلى أنه من بين الـ 263 قرارا التي أصدرها السيسي منذ وصوله إلى الرئاسة، كان هناك 32 قرارا تتعلق بالجيش والقطاع الأمني، بحسب دراسة لمعهد التحرير لسياسات الشرق الأدنى، مشيرا إلى أن هذه القرارات تضم رفع رواتب التقاعد لأفراد القوات المسلحة بنسبة 10%، بالإضافة إلى قرار يوسع سلطات المحاكم العسكرية لمحاكمة المدنيين، وقرار يمنح الجيش السلطة لإنشاء الشركات الأمنية الربحية، وتعلق الكاتبة بالقول: "تخيل شركة (بلاك ووتر) أن تكون مصدر ربح للجيش الأمريكي".
وتنوه الكاتبة إلى القرارات التي لم تلفت انتباه الكثيرين، واتسمت بالسرية، مثل قرار السيسي في تشرين الثاني/ نوفمبر، بما يتعلق بمؤسسة استصلاح الأراضي، وهي شركة مساهمة تابعة للجيش أنشئت عام 1981، ومهمتها بيع العقارات والأراضي التي لا يستخدمها الجيش إلى القطاع الخاص، ومنح السيسي الشركة السلطة لإنشاء مشاريعها المربحة وتطوير الأراضي لتوليد الأرباح.
وتكشف المجلة عن أن هذه الشركة، التي كانت مهمتها التخلص وبيع أرصدة الجيش، أصبحت قادرة على النمو، وهي معفية من الضرائب، ولا تتعرض للإشراف المدني، لافتة إلى أنها واحدة من بين عدة شركات مملوكة من الجيش، فهناك شركة النقل البحري، التي تم إنشاؤها في عهد مبارك، ومن ثم سلمت إدارتها إلى الجيش، وأصبحت هذه الشركات تزاحم القطاع الخاص في اقتصاد يحتاج للنمو.
ويجد التقرير، الذي ترجمته "
عربي21"، أنه من الصعب تحديد حجم ما يسيطر عليه الجيش من الاقتصاد المصري، ولا يطلب من الشركات التابعة للجيش الكشف عن أرصدتها، ولهذا تتراوح التقديرات من 50 إلى 60% من مجمل الدخل القومي العام، مستدركا بأن تنوع مجالات إمبراطورية الجيش الاقتصادية ليس سرا، فجهاز مشروع الخدمة الوطنية يبيع كل شيء من الإسمنت إلى الوقود والمعكرونة والمياه المعلبة، وهناك الهيئة العربية للتصنيع، التي تقوم بصناعة سيارات "جيب" فخمة وهواتف ذكية وألواح شمسية وكلها موجه للسوق المدنية. وتملك شركات الجيش عددا واسعا من الأرصدة، مثل أراض في مناطق رئيسة، وشركات للنقل، ومنشآت للتخزين، وسفن نقل تجاري.
وتورد كرين لين أنه في ظل، مبارك بدأت هذه الشركات بالحصول على عقود تجارية محلية وأجنبية، بدلا من بيع الأرصدة، وشملت عقودا في مجال الملاحة البحرية واللوجيستية والهندسية والبناء، واعتمدت هذه الشركات على المجندين كعمالة دون أجر، وهو ما منحها الفرصة لتقديم أسعار أقل من سعر السوق، وكان هذا الوضع مناسبا للرئيس، الذي شعر أن منح الجيش العقود يعزز من ولاء قادته له.
وتستدرك المجلة بأن مبارك لم يعتمد على النية الحسنة للقادة لتأمين موقعه، بل اعتمد على الحزب الوطني، فقد أقام نظاما للجيش أمن فيه ولاءه له خلال الانتخابات. ويقول عبد ربه: "كان مبارك ذكيا فيما يتعلق بالجيش، فقد كان محابيا له، لكنه (الجيش) لم يكن القوة السياسية المحركة، وكانت لديه إمبراطوريته الاقتصادية، ولكن من خلف الستار، أما الحزب الوطني فقد كان القوة السياسية المحركة".
ويشير التقرير إلى أن هذا كله تغير بعد تنحي حسني مبارك عن السلطة، وسط بهجة المواطنين، وحل محله المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي أوكلت إليه مهمة الإشراف على المرحلة الانتقالية، ولأول مرة منذ عام 1952 تمتع الجيش بسلطة كاملة لإملاء ما يريده على البلاد من قوانين وسياسات، ولا يزال يتمتع بهذه السلطة حتى اليوم من رئيس لا يزال يشعر بالامتنان له.
وتعلق الكاتبة بأن دور الشركات العسكرية اتسع في ظل رئاسة السيسي، ولم تعد تتلقى العقود، بل أصبحت مسؤولة عن إدارة كامل المشاريع. ومن الناحية النظرية، فإن سيطرة هذه الشركات على المشاريع يقصد منها تشجيع الاستثمار الأجنبي، وتسهيل الطرق للمستثمرين، مستدركة بأن هذا كله لا يعدو كونه مجرد كلام، بحسب الباحثة في معهد دراسات الشرق الأوسط في جامعة جورج واشنطن شانا مارشال، التي تقول إن "هذه (كليشيه) تهدف إلى جذب الاستثمار الخارجي، وعليه التخلص من القيود البيروقراطية والتركيز في مكان واحد".
وتضيف مارشال: "يحب البنك الدولي استخدام هذه اللغة، ولهذا تقدم مصر خدمات شفوية لفكرة مواجهة التضخم البيروقراطي، وبهذه الحالة تقوم بمركزة الفساد".
وتذكر المجلة أن هذه المشاريع ليست صغيرة، مثل مشروع تفريعة قناة السويس الثانية، الذي كلف تسعة مليارات دولار، وهو المشروع الذي أشرف عليه الجيش المصري بشكل كامل، فمن خلال أميرال البحر، الذي يترأس هيئة قناة السويس، تأكد الجيش أن مشاريع الحفر والتجريف منحت أولا لمهندسيه ومن ثم للشركات التي يملكها، وهم حلفاؤه السياسيون.
وتعلق مارشال قائلة: "سمحت هذه الجهود للجيش بإحكام السيطرة على المشروع، ومنح العقود للشركات
الخليجية، وأن تتحول إلى برنامج توظيف لرجاله"، بحسب التقرير.
ويفيد التقرير بأن المشروع الضخم الثاني الذي أعلن عنه السيسي هو تحويل 1.5 مليون فدان من
أراضي الصحراء إلى مناطق زراعية، وقد عبر الكثير من الخبراء عن شكوكهم في استعداد السكان لترك مناطق أجدادهم قرب النيل، والعمل في أرض فارغة، علاوة على توفر المياه الجوفية اللازمة لري هذه المناطق.
وترى كرين لين أن "السيسي لا ينظر بعيدا، ولكنه يتطلع إلى تحقيق أهداف قصيرة المدى، مثل منح العطاءات للجيش والشركات الخليجية، والحصول على المكافأة من هذه المشاريع، ولهذا السبب يفضل السيسي المشاريع الضخمة؛ لأنها تجعل من القاعدة الداعمة له، وهي مؤسسة الجيش، سعيدة وثرية، بل إنه عندما يغلف هذه المشاريع بغلاف من الوطنية فإن ذلك يزيد من شعبيته".
وتعتقد مارشال أن "الامتحان الحقيقي لمهارته السياسية سيأتي عندما تنضب الأموال"، وهذا بالضبط ما يحدث، فقد أجبر انخفاض النفط السعودية على إعادة تقييم سياستها المحلية، حيث رفعت سعر الوقود على مواطنيها بنسبة 50% بداية كانون الثاني/ يناير. ومنذ عام 2013، حصلت مصر على 12 مليار دولار من السعودية على شكل استثمارات، وتعهدت بمليارات أخرى، وكلما تراجعت موارد السعودية النفطية ضعفت هذه التعهدات. وترى مارشال أنه في الوقت الحالي "لا يوجد اقتتال على الفتات بعد، ولكن التوتر سيظهر عندما تختفي أموال الخليج".
وتختم "فورين بوليسي" تقريرها بالإشارة إلى أنه عندما يحين ذلك اليوم، سيكتشف السيسي أن المشاريع الضخمة لم تفعل إلا القليل للتخفيف من المشكلات الاقتصادية التي تواجه المصريين في كل يوم. وتقول الكاتبة: "كما تذكرنا ذكرى 25 يناير والثورة السابقة، فقد تتحول حياة المصريين اليومية إلى قوة يجب الحساب لها".