وقفت متأملا بيان الشيخ الجليل يوسف
القرضاوي عن الخلاف الناشب بين جماعة الإخوان ونفر من أبنائها، ثم أخذت أتابع التعليقات وردود الفعل من كل ذي صلة بالموضوع.. وقد اطلعت كما اطلع الكافة على البيانات الصادرة تعليقا على ذلك البيان أو
المبادرة.
من طرف الجماعة تم الاكتفاء بالبيان الصادر على صفحة متحدثها الإعلامي د. طلعب فهمي، وأعلنت فيه ترحيبها بالمبادرة واحترامها لفضيلة الشيخ. ولكن من الجانب الآخر كان الترحيب بالمبادرة كلاما جميلا، ولكن واقع التعامل مع تلك المبادرة هو نسف ما فيها ورفضه عمليا، فقد اتخذها فريق الصياح الإعلامي مناسبة جديدة لمواصلة حملته المستمرة لاغتيال مؤسسية الجماعة وقادتها ولوائحها، التي أكد الشيخ العلامة في معظم بنود مبادرته على ضرورة احترامها.
كنت أتصور أن الناس ستكون عادلة مع أنفسها وهي تتحدث، وتحترم عقول سامعيها وقرائها، لكن تلك العدالة غابت للأسف. في كل الخلافات بين البشر وعندما تقدم مبادرات، فإن العدل يقتضي قراءة تلك المبادرات كتلة واحدة دون زيادة أو نقصان، ودون حذف أو إضافة، وبالطبع دون دس ما ليس فيها عليها، لكن قراءة هؤلاء النفر المحترمين للمبادرة، ترواحت بين مواصلة الهجوم على قيادة الجماعة الشرعية والتشكيك في قيادتها والتهوين من أمرهم من جانب، ومن جانب آخر اختصار المبادرة في بند واحد، وهو إجراء
الانتخابات، والإشارة إلى أن هناك من يرفض إجراءها، وهناك من زاد على المبادرة أشياء من نفسه وصفحات السادة على الفيس خير شاهد.
من حيث المبدأ، فقد انطلقت الحملة منذ البداية تزعم أن القيادة الشرعية للجماعة التي يسميها ذلك الفريق "مجموعة عزت"، نسبة إلى الدكتور محمود عزت القائم بأعمال المرشد العام للإخوان (وتلك تسمية صحيفة اليوم السابع المخابراتية)، ترفض مبادرة الشيخ، فلما صدر بيان الجماعة مؤكدا احترامها لتلك المبادرة وموافقتها على ما فيها، سقط ذلك الزعم والاتهام، لكن الذي رفضته قيادة الجماعة - وفقا للدكتور عمرو دراج في حوار تلفزيوني يوم 26 كانون الثاني/ يناير الجاري - هو فكرة التحكيم باعتبار أن الخلاف بين الجماعة وبعض أبنائها، وذلك يتم حله داخل مؤسسات الجماعة.. ولذا جاء كلام الشيخ كبيان وليس كحكم.
من يضع نصوص المبادرة بكل بنودها يجد أنها بالترتيب الذي وضعه الشيخ القرضاوي تؤكد:
"أولا: التمسك بوحدة الصف، واجتماع الكلمة.
ثانيا: المحافظة على مؤسسات الجماعة، في ضوء تطوير لوائحها، واستكمال مكوناتها، وحسن استثمار طاقات أبنائها وإمكاناتهم.
ثالثا: الالتزام بالمسار الثوري السلمي المقرر والمعتمد من مؤسسات الجماعة وقيادتها، وعلى رأسها فضيلة المرشد ومجلس الشورى العام، متعاونين مع شركائنا من القوى
المصرية المخلصة.
رابعا: الإعداد لانتخابات شاملة لمؤسسات الجماعة في الداخل والخارج، وإجراؤها بأسرع وقت ممكن، وفق لائحة تنظيمية يجري التوافق عليها في مؤسسات الجماعة؛ لتعزيز ثقة الجماعة والتفافها حول قيادتها، وتطوير رؤيتها، وتفعيل أدائها.
خامسا: وخلال هذه الفترة، وإلى حين إجراء الانتخابات، فإني أدعو جميع أبنائي وإخواني من قيادات الجماعة إلى العمل والتعاون فيما بينهم في إطار المؤسسات القائمة للجماعة، والصبر على بعضهم البعض، وإلى التوقف عن التراشق الإعلامي...".
قرأت تلك البنود أكثر من مرة، فوجدتها ترتب الأولويات حسب ترتيب البنود لحل الأزمة، وتضع العلاج الناجع من علامة الأمة لما جرى. فهي بداية تدعو الجميع إلى وحدة الصف وثانيا تدعو إلى الحفاظ على مؤسسات الجماعة القائمة. وقد شرح ذلك في بند آخر، موضحا أن رمز تلك المؤسسات هو مرشدها وقمتها هو مجلس شوراها، ثم يؤكد التزام المسار الثوري السلمي المقرر من تلك المؤسسات.. وبهذا يكون الشيخ القرضاوي قد عاد بالجميع إلى داخل المؤسسة ليستظلوا بقيمها خلف مرشدهم ومجلس شوراهم، ثم يبدأ الجميع أخوة متعاونين على إجراء انتخابات شاملة. تلك هي البنود، بند يسلم بندا، وبند ينبني على ما يسبقه، والعلامة الكبير هو من هو في صياغة العبارة وترتيب الأفكار وكل حرف عنده له معنى، وهو الفقيه الكبير.. وفي النهاية، فإن التعامل مع المبادرة يكون بالنظرة الكلية لبنودها وليس انتقاء بند وإهمال آخر، أو أخذ ما يعجب وتقام الدنيا له وإخفاء ما لا يعجب ويدفن في التراب!
وبناء على ذلك، فقد كان الواجب على من يزعم أنه يحترم مبادرة الشيخ أن يحترم المؤسسية وقرارات الجماعة، وإلا يكون قد نسف تلك المبادرة واقعا حتى وإن كان يهلل لها كلاما.. فقد صدرت عن المؤسسة قرارات لجنة تحقيق رسمية معتمدة من مجلس الشورى وموقعة من القائم بالأعمال، تقضي بوقف الدكتور محمد كمال وأمين عام اللجنة الإدارية العليا واثنين آخرين، وتشكيل لجنة إدارية عليا جديدة برئاسة الدكتور محمد عبد الرحمن، وهي الفاعلة اليوم على الساحة، فإذا بنا نفاجأ بمن يعلنون احترام مبادرة الشيخ لا ينفذون قرارات الإيقاف، ويواصلون عملهم كلجنة إدارية عليا موازية لتلك اللجنة الشرعية، وتصدر تلك اللجنة بقيادة الدكتور محمد كمال بيان ترحيب بمبادرة الشيخ، وتعلن أنها ستشرع في إجراء الانتخابات، ويصرح أمينها الموقوف بأن الانتخابات ستطال موقع القائم بأعمال المرشد!! تلك اللجنة التي وصفها الدكتور عمرو دراج في حواره التليفزيوني بأنها القائمة بأعمال مكتب الإرشاد.. وهذا يعني أنهم ماضون في تكوين مؤسسات بديلة من البداية حتى مكتب الإرشاد بعيدا عن مؤسسات الجماعة الشرعية.. أليس ذلك نسفا للمبادرة التي دعت الجميع لاحترام مؤسسات الجماعة ومرشدها ومجلس شوراها؟!
وقد برر الدكتور جمال عبد الستار في حوار تلفزيوني آخر (26 كانون الثاني/ يناير الجاري) ذلك قائلا: اللوائح والقرارات ليست قرآنا وإنما الأخوة فوق كل شيء.. طيب: إن لم تكن هناك لوائح ونظم وقرارات فلن تكون هناك جماعة من الأصل، بل تكون هناك فوضى!
ولكي يتم إجراء انتخابات بصورة سليمة فلا بد من توفر مقومات نجاحها وشفافيتها، وهي المقومات المطلوبة لأي انتخابات محترمة:
1- مناخ صحي تسوده وحدة الصف والمؤسسية.
2- إعداد كشوف الناخبين وضبطها.
3- تمكين كل من له حق الانتخاب من أداء حقه وواجبه دون استثناء.
4- هناك خمسون ألف مسجون لهم حق الانتخاب، ولا يملك أحد إسقاط حقهم في الانتخاب، والسجن الواحد فيه تشكيلة من محافظات مختلفة، فكيف سينتخب كل واحد مجلس شورى المحافظة التابع لها؟ وحتى لو اعتبرت السجون دائرة انتخابية واحدة، فمن الذي سيمكنك من إجرائها؟ هل هو النظام القمعي الذي منع كل شيء عن المعتقلين حتى نسمة الهواء فقد قننها بوقت بسيط؟ ومن الذي سيمكنك من إجراء تلك الانتخابات على المستوى العام في الداخل؟ إن هناك تحديات جغرافية وأمنية، وهي التي عناها بيان الإخوان والتي رأى ضرورة إزالتها أولا.. ومن هنا فلماذا لا يتم الحوار في جو أخوي لوضع حل لذلك؟
وأشير في هذا المقام إلى أن الإخوان في عام 1995م، وكانوا يومها أحرارا طلقاء، قرروا إجراء انتخابات عامة، حتى مجلس الشورى ومكتب الإرشاد، فتم القبض عليهم ومحاكمتهم محاكمات عسكرية قضت بسجن سبعين منهم من 3 إلى 5 سنوات، بتهمة إجراء انتخابات مجلس الشورى. واليوم فإن مرشدهم ومعظم قياداتهم وجمع كبير من كوادرهم تم الزج بهم خلف القضبان، وسط حملة وحشية لم يسبق لها مثيل على الإخوان على مر تاريخهم.. تحصي عليهم أنفاسهم، وتقتحم عليهم بيوتهم، وتقوم بتصفية بعضهم داخل بيوتهم.. فهل هذا جو انتخابات؟!.. إن الحديث عن ضرورة إجراء الانتخابات حديث مهم ولا يرفضه أحد، لكن لا أحد يتقدم ويقدم حلا مقبولا ومنطقيا لإزالة معوقاتها الجغرافية والأمنية، ومطلوب من الجميع التعاون لتحقيق ذلك.
وطالما أن هؤلاء المحترمين يتوقون للانتخابات ويسوقون أنفسهم على أنهم حماة الشورى والديمقراطية والتداول داخل الجماعة، فلماذا لا يقدمون لنا مثالا عمليا واحدا على ذلك؟ لقد صدر قرار الدكتور محمود عزت القائم بأعمال المرشد بحل مكتب إدارة ملفات الأزمة (سمى نفسه على غير الحقيقة.. مكتب إدارة شؤون المصريين في الخارج)، بعد استقالة أربعة من أعضائه المنتخبين، وبالتالي بقي فيه ثلاثة منتخبون فقط وثلاثة معينون، وكان من المفترض بهذا المكتب ألا ينتظر قرارا بحله، لو كان الباقون من أفراده يؤمنون بفكرة الانتخابات، لكنهم فوق رفضهم لقرار المؤسسة قاموا بتعيين أربعة مكان الأربعة المستقيلين.. أقول تعيينا وليس انتخابا..! مع الأخذ في الاعتبار أن الأسباب التي ذكرها الأربعة المستقيلون كفيلة لتكون نموذجا للفشل الذريع.
خلاصة القول.. أقول بكل ثقة إننا أمام نفر لهم مشروعهم الخاص في فرد شباكهم عنوة على الجماعة بأسرها في الداخل والخارج، وهي في محنتها وضعفها.. نعم يتعاطون مع كل المبادرات والمساعي ويقولون كلاما طيبا عن استعدادهم للنزول على رأي من يتدخل، لكنهم على أرض الواقع لا يحترمون حكما ولا تحكيما ولا مبادرات، ودليل ذلك ما فعلوه مع مبادرة المفكر الإسلامي الكبير محمد أحمد الراشد الذي قام بجولة بحث مطولة في الموضوع، وكان حكمه النهائي في ختام مذكرة طويلة قدمها للجميع قوله: "وأنا أرى أن اجتهاد الأخ محمد كمال أصبح باطلا بعد صدور قرار لمجلس الشورى فيه استيفاء النصاب، وأفهم أن الأخ محمد كمال ومن معه، والأخ أحمد عبد الرحمن وجميع من معه في الخارج، عليهم قبول هذه النتيجة بصدر رحب، والمسارعة إلى الطاعة والاستغفار، ثم طلب الإصلاحات التي يرونها من القيادة التي يرتضيها مجلس الشورى...". وقال في موضع آخر: "وحكمي قد يسبب الأذى لإخواني في القيادة الشبابية، ولكن الحق أحق أن يقال وأنا عل بعد شبر من قبري...".
الكاتب هو مدير تحرير صحيفة الشعب المصرية ومجلة المجتمع الكويتية سابقا