احتفل
التونسيون بالذكرى الخامسة على ما أسموه "
ثورة الياسمين". ففي الرابع عشر من يناير/ كانون الثاني 2011 سقط النظام بفرار رئيسه إلى مدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، لتدخل البلاد حقبة سياسية جديدة، موسومة بانفجار الإرادة الجماعية، وتدافع التونسيين من أجل إعادة بناء شرعيتهم السياسية، ومؤسساتهم الدستورية، والتطلع لإعادة الثقة للاقتصاد، والأمن، وموقع تونس في الجيو اسراتيجية الدولية الجديدة.
لاشك أن نجاح " ثورة الياسمين"، وانطلاق ديناميات البناء الجديد منحا الشعب التونسي لحظة سياسية مميزة موسومة بالفرح، والشعور بالفخر مما حصل. ولاشك أيضاً أن المجتمع التونسي استرجع قدرته على التعبير الحر عن إرادته، والإصرار على إنجاز تطلعاته في التوافق حول إعادة بناء شرعية السلطة والمؤسسات الدستورية والسياسية. والواقع أن التونسيين أعطوا مثالاً واضحاً عن إمكانية النجاح، بالحوار والتوافق والبحث عن المشترك، في الانتقال من وضع غير ديمقراطي إلى آخر ديمقراطي، أو على الأقل يسير بخطوات ثابتة في اتجاه ترسيخ الديمقراطية.
عرفتُ الذكرى الخامسة لنجاح " ثورة الياسمين" حوارات عميقة، ونقاشات متباينة، حول ما تحقق وما بقي عالقاً دون إنجاز. وقد تفاعل الإعلام، بمختلف أشكاله، مع حدث الذكرى، والحصيلة الإجمالية لسيرورة البناء الجديد، ليس من زاوية الدستور والمؤسسات الدستورية فحسب، بل كذلك من ناحية حال الاقتصاد، والوضع الاجتماعي، والأمن والاستقرار، ومكانة تونس الدولية. وبنظرة فاحِصة لما واكب استحضار ذكرى الثورة من حوار وتقييم، يمكن استخلاص رؤيتين متباعدتين لما كسبته تونس من ثورتها وما لم تحققه من أهدافها ومقاصدها.
ثمة رؤية ترى في الثورة تحولاً جذريا في البلاد، أنقل التونسيين من وضع غير ديمقراطي إلى آخر ديمقراطي، أو على الأقل فتح الطريق أمام سيرورة لتوطيد الديمقراطية.. حجة أنصار هذه الرؤية ومُّدعِّميها أن تونس نجحت في كتابة دستور توافقي جديد ) 2014(، وأجرت انتخابات رئاسية وتشريعية حرة ونزيهة، وأرست مؤسسات ذات طابع تمثيلي، وما زالت تسعى بشكل حثيث إلى استرداد المناعة والقوة للاقتصاد، والاستثمار، والتماسك للبناء الاجتماعي، والمكانة المطلوبة لتونس على الصعيد الدولي. تُناظر هذه الرؤية مقاربةٌ أخرى تبدو متعارضة في تقييمها لحصيلة ما أنجزته "ثورة الياسمين"، والآفاق التي تنتظرها. فالثورة عند دعاة هذه المقاربة انحازت عن أهدافها، وابتعدت عن مقاصدها، وتحولت شعاراتها إلى مجرد أوهام خادعة لا أمل في تحقيقها، لاسيما من زاوية معالجة الاختلالات الاجتماعية، والفوارق الجهوية والمناطقية، والقدرة على تحقيق الأمن والاستقرار في البلاد، والتمكن من استعادة المناعة والحيوية للاقتصاد الوطني والثقة في الاستثمار وانسياب رؤوس الأموال الأجنبية.
بيد أن لكل ثورة، أي ثورة، كبواتها، ومواطن ضعفها، وأحيانا إخفاقاتها. فكثير من التونسيين، لاسيما الشباب منهم، ينتابهم شعور بأن آمالهم في الثورة و مقاصدها بدأت تتبدد، وأن إيقاع الإنجازات أضعف بكثير من التضحيات التي أقدموا عليها. لنذكر أن منذ الرابع عشر من يناير 2011 وحتى اليوم تعاقبت على السلطة في تونس ست حكومات متنوعة في اتجاهاتها السياسية، ربطها خيط ناظم يكمن في عجزها عن الظفر بثقة المواطنين في اقتصادهم، وأمنهم، وأداء مؤسساتهم. لذلك، لم يعد خافيا التراجع المتصاعد للعزوف السياسي في أوساط الشباب، ذكورا وإناثا، والاستنكاف الإرادي عن المشاركة في الشأن العام، أي الانضمام للأحزاب السياسية والتصويت في الانتخابات. لكن أخطر ما وسِم " الثورة"، وأضعف جذوتها وجاذبيتها ارتباك النخبة السياسية، وضمور الاجتهاد الخلاق في الدفع بتجربة الانتقال نحو الأمام، لاسيما في الميادين ذات العلاقة المباشرة بحياة المواطنين، أي الشغل، والصحة، والتعليم، والأمن، والثقة في المستقبل.
لم تُجَر استطلاعات رأي كثيرة حول صورة "ثورة الياسمين" في المخيال الجماعي التونسي، لكن ما أجري، وهو قليل، يكشف عن نسبة عالية ممن عبروا عن خيبة أملهم في ما آلت إليه الثورة، نظير قليل منهم أقر بنجاحها في ما رسمت من أهداف ومقاصد..وبين الحدّين المتجاذبين، عجز الكثير من التونسيين عن الإفصاح بصفة قاطعة عن نظرتهم حُيال الثورة ومسارها. وفي كل الأحوال يصعب موضوعياً الحكم بلغة واثقة عن "ثورة الياسمين" وما أنجزت وما لم تُنجز.. لأن مسار الثورات بشكل عام طويل وشاق، وفيه الصعود والنزول، ويستلزم قدراً معقولاً وكافياً من الوقت للحكم بصفة نهائية على نتائجه. ثم إن نجاح الثورة، أي ثورة، لا يتوقف فقط بعقلها، أي بقادتها، وروافعها الاجتماعية والسياسية والثقافية، بل يرتبط بشكل عميق بمحيطها العام وسياقاتها الخاصة.
لا شك أن النخبة السياسية القائدة لتونس اليوم ليست على قدر عال من التماسك والتجانس، والاستعداد للوفاء لشعارات "ثورة الياسمين"، كما أنها تعيش تجاذبات داخلية وبينية في الآن معا، من شأنها التأثير سلباً على سيرورة الثورة ومآلاتها. ثم إن المحيط الجهوي، لاسيما المغاربي منه، لا يدعم مناخ الثورة في تونس، بل قد يمثل عائقا له. لننظر مثلا إلى الوضع الجاري في ليبيا، وما يشكل من تحديات أمنية بالنسبة لدينامية توطيد الديمقراطية في تونس، والأمر نفسه ينسحب على الخطر القادم من دول إفريقيا جنوب الصحراء والساحل. والحال أن السياق الدولي هو الآخر غير داعِم، بما يكفي، للثورة التونسية وتعزيز نجاحها. فالانكماش الاقتصادي في تصاعد، و الأزمة المالية لم تخرج بعد من المأزق الذي دخلته منذ العام 2008، وإذا جمعنا بين الوضع الداخلي التونسي وسياقه الدولي، نُدرك، دون شك، حجم التحديات التي تواجه " ثورة الياسمين"، والآمال الكبير التي يعلقها التونسيون عليها منذ خمس سنوات.