كتاب عربي 21

الأمة.. فاقدُ الشيء لا يعطيه

1300x600
في مجال المربّع الأول لثورات الربيع العربي أي في مصر وتونس تحديدا يقدّم أداء النظام السياسي هناك صورة كاشفة عن حالة العجز والشلل التي تضرب بكل عنف مفاصل الانقلاب على الثورة وعلى حلم الجماهير العربية بالكرامة والعدل.

إنّ ما يوحّد مجال المربع الأول على مستوى الفعل هو الطابع الانفجاري الفجائي للحركة الاجتماعية التي أطاحت برأس الاستبداد والتي عجزت عن تطهير الأسس التي يقوم عليها بناؤه بما هو شبكة عميقة ومعقدة من المصالح أولا ومن الولاءات ثانيا ومن المشاريع ثالثاً. 

شبكة المصالح هي أوضح الأبنية في منظومة الاستبداد لأنها تتعلق بالمكاسب المادية المنظورة لدوائر النظام سواء كانوا أفرادا أو مجموعات وحسب ترتيبهم في سلّم الاتصال بالمركز أو الابتعاد عنه. هي كذلك أمتن الأسس التي يرتكز عليها النظام الشمولي لأنها تشكل القنوات التي تمده بالحياة والمجالات التي عبرها ينحت الخلايا الوظيفية التي تتجدد داخل النسيج الاستبدادي فتمدد في عمره. 

أما شبكة الولاءات فهي لا تكاد تنفصل منهجيا عن شبكة المصالح وتتجلى في مستويين أساسيين: يشغل الأول الحيز الداخلي ويتمثل في مجموع العائلات المرتبطة بالنظام والمشكّلة لنواته الأساسية ولأحزمته المختلفة. أما المستوى الثاني فيتجلى في شبكة العلاقات الخارجية التي تمد النظام الاستبدادي بالشرعية الدولية وبالغطاء الخارجي الضروري لمواجهة احتجاجات الداخل بشكل خاص. 

ثالث الشبكات وهي شبكة المشاريع فإنما تتجلى في مجموع القدرات الذاتية والخيارات الاستراتيجية التي يمكن أن يقوم عليها مشروع النظام الاستبدادي اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا خاصة وتتجلى كذلك في قدرة النظام على الصمود في وجه مختلف العواصف والرجات التي يمكن أن يتعرض لها. 

انفجار تونس الكبير نجح في الإطاحة برأس النظام هناك وكذلك في مصر لكنه عجز عن اجتثاث أسسه أو ما يعبّر عنه بالدولة العميقة التي تتشكل من مجمل الشبكات التي ذكرنا. لكن من جهة أخرى ومع تطور المسارات التي أعقبت الثورات الأخيرة وخاصة الانقلابات الدامية أو الناعمة التي تلتها أثبتت دولة العمق أنّ أسهل فصول الثورة المضادة هو الانقلاب على الثورة نفسها أما تثبيت الانقلاب فهو أعسر المهمات لسبب أكيد وهو اختلاف السياق الاجتماعي الواقع قبل الثورة وبعدها. 

في تونس وبعد عودة النظام القديم عبر صناديق الاقتراع تظهر الانشقاقات في هرم النظام "القديم الجديد" وتطفو الشقوق على سطح المشهد السياسي الباهت وتبرز التشققات التي تعبر كامل الطيف السياسي الحاكم بعد أن استتب الأمر في مهد الربيع أو يكاد لنُخب "بن علي" في السلطة والمعارضة وها هي اليوم تقرر مصير جيل قدم مئات الشهداء من أجل الظفر بالحرية ونيل الكرامة والتحرر من سياط الجلاّد. 

أما في مصر فإن خيبات النظام الانقلابي العسكري هناك لا تكاد تحصى أمنيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا حيث لم يعرف البلد منذ عقود حالة الاحتقان التي يعاني منها اليوم وليس سقوط الطائرة الروسية وفرار السياح من أغلب المدن المصرية إلا مسمارا آخر يدقّ في نعش الانقلاب الدامي. 

هاته المؤشرات الصادرة عن مجال الربيع الأول تسمح بتقديم الملاحظات التالية: 

أولا: عجز المشروع الانقلابي على ثورات الربيع العربي عن استنساخ المشهد السابق للربيع بشكل يسمح له بالبقاء حيث فشلت كل المحاولات لإحياء المنظومة القديمة رغم كل الدعم الدولي ورغم كل الأموال التي صُرفت من أجل منع الثورات العربية من بلوغ الأهداف التي رسمتها لنفسها وتحقيق الشعارات التي رفعتها الجماهير في الشوارع والساحات. 

ثانيا: هذا العجز يؤشر على بلوغ حركة التغيير العربية الأخيرة نقطة جديدة في مسارها العام ويبشر بدخول المسار مرحلةً موالية قد تؤدي إلى تحقيق لحظة انفجارية جديدة خاصة في المشهد المصري بعد أن أثبت النظام أنه عاجز عن تأمين الانقلاب وتحقيق أهم أهدافه وهو استنساخ المشهد القديم. 

ثالثا: إنّ سقوط الانقلابات التي قد تستنسخ شروط الثورة الأولى وتؤدي إلى موجة ثورية ثانية يطرح بشكل ملح مسألة البدائل الممكنة في حال تمدد العجز الانقلابي وترنحه. هل تملك النخب العربية بدائل حقيقية في حال سقوط الانقلاب؟ ألم تثبت هذه النُخب السياسية العربية عجزها وإفلاس مشاريعها وفشلها في تصفية تركة الاستبداد الثقيلة سواء في تونس أو في مصر ؟ ألم تثبت أنها لا تملك حتى أبسط الآليات في التعامل مع الواقع الجديد؟ 

الثابت هو أنّ الاستبداد الجديد من ناحية ونُخب العرب من ناحية ثانية قد فشلا بشكل كبير في امتحان الربيع العربي. فشلَ الأولُ في إحياء نفسه وبعث أسسه من رماد وهاهو يترنح ويعجز عن الوقوف في مواجهة نفسه رغم غياب كل أشكال المقاومة الجماهيرية الفعلية. أما الثانية فقد باغتتها الأحداث لتكتشف أن أطروحاتها وإيديولوجياتها قد بَليَت وقد عفا عليها الزمان لأنها لم تتجدد بتجدد السياق التاريخي. عندها يجد القوميّ نفسه مكرها على مؤازرة وكيل المدّ الإمبراطوري الفارسي في أرض العروبة ويقف مساندا لسفاح يفتك بشعبه. عندها أيضا يجد اليساريّ نفسه مصطفا إلى جانب الأطماع الروسية بطائراتها التي تقصف شعبا أعزل طالب بالحرية. عندها أيضا يجد الإسلاميّ نفسه عاجزا عن توقع شراسة دولة الأعماق فيعجز عن الفعل حتى وهو ممسك بمقاليد الحكم لأنه لم يكن يعلم أنّ الحكم في يده لكنّ السلطة تقع في يد غيره.