كان تراجع حزب
العدالة والتنمية في انتخابات يوليو الماضي سبب إثارة جدل واسع في الأوساط الليبية، كغيرها من الأوساط العربية التي تشهد انقساما واستقطابا حادا بعد الربيع العربي. فمن سعيد بتراجع نفوذ الحزب في البرلمان وشامت في من يعتبرهم أنصاره في
ليبيا، إلى حزين ومدافع عن مدلولات النتائج آنذاك وأنها ليست خسارة بل تغير فرضته الظروف السياسية داخليا وخارجيا.
الجدل يتكرر اليوم بعد فوز حزب العدالة والتنمية في جولة الإعادة مع تغير مناطق الوقوف، فأنصار العدالة والتنمية الليبيون يحتفلون وبعضهم شامت في المعسكر الآخر، بينما لجأ بعض خصومهم إلى تداول تبريرات من الواضح أنها لا تتعدى أن تكون بحثا عن أي رد يشوش على الثاني فرحته لا أكثر.
بالقطع المواقف بهذا الشكل تعكس حالة التردي الفكري والتأزيم النفسي، وتصتصحب حالة الاستقطاب الواقع بكل عناوينها الحزينة ومضامينها المدمرة.
ما يعزز القلق الذي أشعر به تجاه ثنائية الجدل الدائر حول التجربة التركية، أن كلا المتجادلين حولها أو أحدهما على الأقل، لا ينطلق من معيار موضوعي لتحديد موقفه من التطورات على الساحة التركية، التي بالأساس تتمحور حول انتقال سياسي ناجح ونموذج تنموي متميز، بل تتجاهل هذه التجربة الأصيلة في الانتقال والبناء لتقزمها، في معادلة صراع سياسي أعمى بين أطراف موتورة وبعيدة تماما اليوم عن جوهر الانتقال الصحيح والبناء النموذجي، بل تغوص في وَحْل أزمة مطبقة.
المرور على الكم الهائل من
التدوينات والتعليقات في الصفحات الليبية على مواقع التواصل الاجتماعي حول الانتخابات التركية في جولتيها الأولى والثانية، يعكس لك أن معظم المعادين لحزب العدالة والتنمية التركي وكثيرا من المؤيدين له، وغيرهم من المتورطين في هذا الجدل لا ينطلقون من تقييم علمي أو أساس موضوعي لسبر غور التجربة التركية في أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ودراستها كنموذج تحول وتطور قد يوفر ما يستفاد منه لتجربة الانتقال والبناء المنشود في ليبيا، بغض النظر عن اللاعبين السياسيين الأتراك وبعيدا عن انتماءاتهم وتوجهاتهم.
لقد كانت جُل التعليقات والتعقيبات تكتسي روح الاستقطاب والعداء، وما يقترن به من عُقد نفسية وطرق كيدية من بحث عما يغضب الآخر ويشمت به أو يسهم في تعبئة الرأي العام لصالح موقفه وضد خصمه، ويتأكد الدهاء والذكاء في التنقيب عن الثغرات والسلبيات في التجربة وطرحها بشكل انتقامي وشامت، لتضيع فرصة التعلم والاستفادة ويطبق التخلف الذي يتغدى على الكره فيزيد المشهد الليبي ظلامية.
التجربة التركية هي تجربة تحول ضمن منظومة متكاملة ترتبط بتاريخ وجغرافيا وديمغرافية خاصة، وهي في الأساس تجربة إنسانية ينبغي التعامل معها كنموذج للتغيير، بعيدا عن التراكمات السلبية التي تحكم العقول وتتراجع بها إلى آفاق ضيقة جدا في النظر والحكم على الأشياء والأحداث والتجارب، ونقصد هنا التراكمات السلبية التي هي نتاج صراع سياسي منفلت وحاد تشهده البلاد اليوم.
لقد قاد العداء المستحكم والخصومة الحادة بين الفرقاء الليبيين إلى ظلامية فكرية وتحجر وجداني، أبعدهم مسافات شاسعة عن الموضوعية وانزلق بهم في وادي سحيق من الكراهية ورفض الآخر، ورفض ما يعتقد أنه يمثله أو يقف معه في خندق واحد محليا وإقليميا وحتى دوليا وفق تحليله وتصوره، وهذا تفكير عقيم بل توجه مدمر لا يمكن أن يساعد على تجاوز الأزمة السياسية والأمنية الراهنة، فضلا عن التمهيد لنقلة تنموية أو قفزة نهضوية يتطلع إليها الليبيون.
فالتنمية والنهوض لا يمكن أن يتحقق في أوساط يعشش فيها مثل هذا الاستقطاب وتبعاته من حقد وكره وعدائية مستحكمة، على العكس تماما فهو يدفع بالبلاد إلى قعر منزلق التردي ودرك وادي التخلف.