كتب علي القره داغي: تنفس جميع الذين يتبنون المشروع الإسلامي، أو وقفوا مع الربيع العربي، أو وقفوا مع حرية الشعوب، الصُعداء، بعد أن كبسوا أنفاسهم طوال فترة العد والإحصاء في
الانتخابات التركية الأخيرة، فلم أشهد في عمري حالة انتخابات جذبت الناس، بل جعلتهم على فُسطاطين مثل هذه الانتخابات، فقد رأيت حالات شديدة من الهلع والجزع والخوف والريبة على الفريقين، وتابعت إلى حد ما، مواقع التواصل الاجتماعي، والقنوات الفضائية ووسائل الإعلام المرئية، والمسموعة، والمقروءة، فلم أشهد حالات الاستقطاب الشديد مثلما حدث في هذه الانتخابات.
وهنا أود أن أسجل ملاحظاتي حول هذه الحادثة التاريخية:
أولا: أن العالم قد انقسم حول هذه القضية إلى فريقين، فريق معارض لحزب العدالة والتنمية بقيادة الأستاذ
أردوغان، والأستاذ أوغلو.
والغريب في هذا الفريق أنه جمع مجموعات كثيرة متناقضة في أهدافها، وأيدلوجياتها ولا يمكن أن تتفق إلا على هذه المسألة، حيث جمع معظم الغرب والشرق والمشروع الأمريكي الصهيوني، كما جمع بين معظم الاشتراكيين والرأسماليين، وبين بعض التوجهات الإسلامية كجماعة فتح الله جولان، والأحزاب العلمانية المتوغلة، كما جمع بين القوميين
الأكراد والقوميين الأتراك، الذين كانوا على تضاد تام على مر تاريخهما، ولم يجمعهما إلا هذه القضية، كما جمع بين الطائفيين، وأهل البدع والضلالة.
إنه لخلط غريب أكد لنا خطورة الأيديولوجية المادية البشرية، فإنها تعمى الأبصار والقلوب، كل العقلاء كانوا يقولون- وأنا منهم- إن من مصلحة الشعب الكردي في
تركيا أن نقف مع أردوغان وحزب العدالة، لأنهم هم وحدهم أقروا للشعب الكردي معظم حقوقهم، ولكن الأيديولوجية والمصالح الحزبية أعمت الأبصار فضيعوا هذه الفرصة أيضا. فهؤلاء جميعا بذلوا جهودا مضنية، ماديا ومعنويا، ومن خلال وسائل الإعلام المسخرة لشيطنة حزب العدالة فكانوا ينتظرون النتائج بفارغ الصبر.
وأما الفريق الثاني المؤيد لحزب العدالة والتنمية وللأستاذ أردوغان فقد كان منسجما، لأنه يتكون من أصحاب المشروع الإسلامي، والمشروع التحرري الذي يريد الحرية لشعوبنا العربية والإسلامية، ومؤيدي الثورات العربية، وأصحاب الضمير الإنساني الذين رأوا في حزب العدالة أنه ناصر قضايا الحق، وخاصة القضية الفلسطينية، ودافع عن الأقصى بقوة، ووقف مع الحق والعدل، وبذل جهودا كبيرة في خدمة المضطهدين والمظلومين في كل مكان في فلسطين، وسوريا والشام، ومصر والعراق، وليبيا، وميانمار، والصومال وغيرها.
فهؤلاء جميعا كانوا ينتظرون النتائج بفارغ الصبر، ويتمنون أن تكون مبشرة بالخير، وكانت كذلك بفضل الله.
ثانيا: ومن قدر الله تعالى أن يكون هذا النصر المبين لحزب العدالة والتنمية في اليوم الأول من نوفمبر، وهو نفس اليوم الذي أصدر فيه مصطفى كمال قراره بإسقاط الخلافة العثمانية.
ثالثا: أني تابعت إخواننا المهاجرين المصريين، والسوريين، والعراقيين وغيرهم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، فوالله ذكرتني حالتهم بحالة المهاجرين إلى الحبشة، حيث آواهم الملك العادل النجاشي، ولكن ابن عمه قد تمرد عليه، واستعان بدول أخرى مجاورة، فجاء بجيش عظيم للقضاء على النجاشي، وهنا زلزل المهاجرون زلزالا شديدا وعرضوا على النجاشي أن يكونوا معه في هذه الحرب، لكن النجاشي أبى فقال: أنتم ضيوفي.
فذهب بجيشه لمواجهة جيش ابن عمه الكبير، فالتقى الجيشان، وانتصر فيه النجاشي. فالمهاجرون لم يستطيعوا أن يبقوا في أماكنهم، فذهبوا وراء جيش النجاشي، ويدعون لهم، بل علموا جنوده كيفية الاستفادة من العبور الفردي للنهر الذي كان بين الجيشين، من خلال الاستفادة من القرب الجلدية.
فقد استعرض قلبي حالة إخواني المهاجرين في تركيا لهذه الحالة، لأنه لو نجح الفريق الثاني المقابل لحزب العدالة، لقاموا بطرد اللاجئين، ووقفوا مع بشار الأسد القاتل الظالم، ومع الانقلابي القاتل الظالم.
رابعا: أعجبني ثبات الأستاذ أردوغان، والأستاذ أحمد داوود أوغلو، ومن معهما من القياديين، أنهم لم يتنازلوا عن سيادتهم، وآرائهم الخاصة بالقيم والإسلام واللاجئين، والموقف من الانقلاب في مصر، ومن الصهاينة..
فقد سمعت وقرأت وشاهدت أن بعض من يسمي نفسه بالمحلل السياسي يقول: إن حزب العدالة لم ينجح النجاح المطلوب في الانتخابات الماضية بسبب مواقفهم، وأن عليهم أن يتنازلوا بعض الشيء، لكن هؤلاء قد ثبتوا على مواقفهم المبدئية وأكدوا عليها حتى في برامجهم الانتخابية، وكأنهم تشبثوا بقوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ).. آل عمران 173.
نعم إن الإخوة في العدالة راجعوا أنفسهم، وعدّلوا بعض برامجهم وخطاباتهم، ولكنهم ازدادوا إيمانا بالله تعالى، وبالوقوف مع الحق والمضطهدين، ولذلك لم يخذلهم ربي، ولن يخذلهم ما داموا على الحق، فتلك سنة الله تعالى.
خامسا: أعطى نجاح حزب العدالة والتنمية آمالا عريضة بنجاح المشروع الإسلامي التنموي في تركيا، بل في العالم الإسلامي أجمع، ولو فشل – لا سامح الله – لكان إجحافا كبيرا لجميع المسلمين، (لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).. الروم 4-5.
والله الموفق وهو المستعان
(عن صحيفة الشرق القطرية- 4 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015)