من دمشق إلى طرابلس ومن تونس إلى صنعاء تقف قاهرة
السيسي كمايسترو للثورة المضادة، تضرب هنا وتتآمر هناك، تلعب على كل الحبال، تغضب الحلفاء وتعود لمراضاتهم، الهدف واحد ضرب الربيع العربي، وما حمله من مشاريع واعدة للديمقراطية وحقوق الإنسان وإعادة توزيع الثروة، والتبشير بالعدالة والكرامة والعيش الكريم.
لم يكن غريبا بالنسبة لنا موقف الجنرال السيسي الداعم للغزو الروسي لسوريا والضربات الجوية لمعاقل الثورة فيها، ولم يكن غريبا علينا دعمه لسفاح
سوريا بشار الأسد بالأسلحة والذخيرة، ولكن المدهش أن حلفاء السيسي في الخليج والذين يظهرون عداء لبشار ويسعون لخلعه يعيشون صدمة من سلوك السيسي في سوريا، وهم الذين كانوا يتصورون أن إغداقهم عليه بعشرات المليارات لتثبيت أركان إنقلابه كفيل بربطه بهم وبسياساتهم ومواقفهم أيا كانت، لم يتعلم هؤلاء الحكام من موقف السيسي في اليمن الذي كان داعما للمخلوع عبد الله صالح والحوثيين، والذي سارع إلى إرسال سفير له إلى صنعاء بعد سيطرة الحوثيين عليها بينما كانت الدول الخليجية ودول أخرى تسحب سفراءها لعدم إسباغ شرعية على الإحتلال الحوثي، والذي استضاف معارض فنية للحوثيين في قلب القاهرة واستقبلت أجهزة مخابراته قيادات حوثية بينما كانت القوات
السعودية ومعها التحالف الخليجي تستعد لإطلاق عمليات عاصفة الحزم التي اضطر لإعلان دعمها الرمزي حفاظا على تدفق" الرز" من السعودية، ولم يتعلم حكام الخليج الدرس أيضا من إنفتاح السيسي على النظام الإيراني وترتيبه للعديد من الزيارات التي بدت شعبية وثقافية إلى طهران بعد أن كانت مثل تلك الزيارات محرمة من قبل، المهم أن الحكام الخليج لدغوا من جحر السيسي مرتين وأكثر ولم يفيقوا فما كان منه إلا أن واصل اللدغ، وقديما قالوا "سمن كلبك يأكلك".
لن نستغرب أيضا أن يمارس السيسي بلطجة من نوع جديد ضد الدول الخليجية لإجبارها على مواصلة الدعم المالي له رغم معاناتها الاقتصادية نتيجة تراجع أسعار النفط إلى النصف والتي دفعتها للتقشف داخليا ودفعهتها لتخفيض موازناتها والاستغناء عن آلاف العمال ووقف المشاريع الخ، فهذا سلوك طبيعي لحاكم عسكري لايعرف معنى الأخلاق ولا المبادئ ولا إحترام الحقوق والحريات، وكيف لمن لم يحترم شعبه أن يحترم غيره؟!، ولن يكون غريبا في حال -لاقدر الله- تمكنت روسيا من انهاك الثورة السورية، وحولت عتادها الحربي لدعم الحوثيين في اليمن أن يسارع السيسي بدعمها أيضا ضد حلفائه في المملكة.
مشروع السيسي الآن هو الإجهاز على ثورات الربيع العربي، والانتقام ممن قاموا بها سواء في
مصر أو خارجها، لأنهم تجرأوا على إنهاء حكم العسكر الذي يرى نفسه الأحق بحكم الدول العربية إلى يوم الدين، لاينازعه في حكمها أحد، ولاينازعه على خيراتها أحد، وحتى الدول الملكية التي لم تعرف الحكم العسكري عليها أن تظل خاضعة لهيمنة عساكر العرب أينما كانوا في مصر أو سوريا أو اليمن أو الجزائر إلخ، وعليها أن تدفع "الإتاوات" للجنرال وهي صاغرة.
حاول السيسي وعصابته تدجين الثورة السورية بشكل هادئ حينما سعى لتصنيع معارضة أليفة إستضافها في القاهرة ليؤهلها ويلقنها ويعيد تسويقها دوليا، فلم تفلح مهمته، عارض بشكل سياسي فكرة الإطاحة بالأسد بدعوى أن ذلك سيتسبب في تقسيم سوريا، ودعم الموقف الروسي الإيراني الرافض للمساس بالأسد بالمخالفة الواضحة للموقف السعودي والخليجي، وما إن بدأت روسيا ضرباتها الجوية على سوريا حتى بادر وزير خارجيته سامح شكري ليعلن دعم بلاده بدعوى أنها تضرب الإرهاب.
ما فعله ويفعله السيسي في سوريا فعله من قبل في ليبيا، حيث أن مخابراته هي التي احتضنت فلول نظام القذافي وعناصر الثورة المضادة لثورة 17 فبراير الليبية، وفتحت لهم الباب للتدريب في مصر، وصنعت لهم قيادة عسكرية تمثلت في الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، وأمدته بالمال والسلاح ليبدأ معركته ضد الثورة الليبية، وقادت جهودا دولية للتسويق له باعتباره القيادة الشرعية للجيش الليبي، وقام الطيران المصري بضرب مواقع للثوار في ليبيا دعما لحفتر، لكن صمود الثوار على الأرض ومواجهتهم لضربات حفتر وبقايا كتائب القذافي وضربات قوات السيسي حالت دون تمكن الثورة المضادة حتى الآن، وحتى بعد أن إنتهت جولات الحوار الليبي في الصخيرات المغربية بإعلان المبعوث الدولي برناردينو ليون عما وصفه بالحكومة التوافقية، لم ينته الصراع، رغم صدور بيانات الترحيب والدعم من المجتمع الدولي لهذه الحكومة التي لم يرض عنها المؤتمر الوطني العام الممثل لثوار ليبيا، ولن تستطيع هذه الحكومة عقد جلساتها في العاصمة طرابلس، وستستمر المعركة في ليبيا بين الثورة والثورة المضادة حتى يتمكن الثوار من حسمها على الأرض حيث أنهم يسيطرون على غالبية الأراضي الليبية فعلا.
ورغم أن الأوضاع في تونس استقرت نسبيا بعد الإنتخابات الأخيرة والتي أتت بالسبسي رئيسا، إلا أن تحركات عبد الفتاح السيسي لتأزيم الأوضاع في تونس لم ولن تتوقف، لكن ما يطمئن إلى فشل هذه التحركات هو الوعي السياسي العالي الذي يتمتع به الشعب التونسي والمجتمع المدني التونسي والذي استحق من أجله جائزة نوبل للسلام التي منحت لرباعية الحوار الوطني والتي تمثل بالفعل ضمير المجتمع التونسي.
ومع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثالثة لم يتوان السيسي عن تقديم نفسه مجددا للصهاينة حيث دعا الفلسطينيين -كما هو متوقع- لضبط النفس والتوقف عن العنف، وهو الذي دعا قبل أيام قلائل الدول لتوسيع قاعدة السلام بين العرب وإسرائيل وذلك بدخول دول عربية أخرى إلى حظيرة السلام وهو ما دفع الصهاينة واللوبيات الداعمة للاحتفاء بهذه الدعوة واعتبار أن السيسي هو هدية السماء لهم.
برغم أن السيسي لم يحسم معركته الداخلية، ولم يحقق لحكمه الإستقرار الكامل حتى الآن، حيث لايزال خائفا من أي مظاهرة أو تحرك شعبي ولو كان صغيرا، إلا أنه يدرك أيضا أن أي انتصار يحققه الثوار في سوريا أو ليبيا أو اليمن أو تونس سيصب حتما لصالح ثوار مصر، وسيزيد المقاومة لحكمه، ولذلك فهو يحارب على الجبهتين الداخلية والخارجية في الوقت ذاته، وهو الدرس الذي ينبغي لكل أنصار الديمقراطية أن يتعلموه فمعركتهم أيضا واحدة وإن تعددت عواصمها.
إذا نجح السيسي -لاقدر الله- في مهمته القذرة لقمع الربيع العربي فلن نفاجأ أبدا أن يتحول السيسي إلى الدول الخليجية لإخضاعها تماما لنفوذه، وابتزازها ماليا وسياسيا، ولن نفاجأ إذا وجدناه يؤيد تمردا شيعيا في البحرين أو في السعودية أو الكويت، ولن نفاجأ أيضا إذ قرأنا أخبارا عن تدبيره محاولات إنقلابية في هذا البلد الخليجي أو ذاك، فهذا مسلك طبيعي ومتوقع تماما منه، ولكننا سنتفاجأ مجددا بالمواقف الخليجية المصدومة من كلبها الذي سمنته.