فجأة استفاقت
مصر على قضية فساد غريبة، طالت عددا من الرموز العامة وبعض الوزراء في الحكومة بل ورئيس الحكومة نفسه! لم يتعود المصريون على وجود قضايا فساد رغم تعودهم على وجود الفساد نفسه!
هذه القضية فتحت الطريق نحو تغيير الحكومة، وخلطت الأوراق، مما دعا إلى إعادة ترتيب الأمور وقراءة المشهد من جديد!
مربط الفرس في الأزمة السياسية التي يشهدها نظام
السيسي الآن هو تقارير أمنية واستخبارية رفعت إلى السيسي مطلع العام الجاري تفيد بوجود مخطط – أو على الأقل تخوفات – من حدوث انقلاب ناعم على السيسي من خلال البرلمان.
هذه التقارير - وفق صحيفة العربي الجديد - ذكرت بالاسم اسم رجل الأعمال المنخرط في السياسة حتى النخاع "نجيب ساويرس" وعدة رجال أعمال آخرين تم تقديم بلاغات للنيابة العامة ضدهم بالفعل في الفترة الأخيرة.
وذكرت التقارير أن المخطط يهدف إلى سحب الثقة من السيسي من خلال البرلمان وربما محاكمته أيضا، وفق الصلاحيات الممنوحة لمجلس النواب القادم في الدستور الذي وضع عقب الانقلاب في 2014.
إن صحت هذه التقارير فهذه المحاولة الانقلابية هي الأخطر على السيسي، لأن أميركا ودول الإقليم من المحتمل جدا أن تدعمها ولا تعترض عليها، لأنها ستطيح بالسيسي كشخص من المشهد - وهو الذي يعتبر في نظر الكثيرين جزء من المشكلة وليس جزء من الحل - دون أن تعود السلطة مجددا للإخوان، مع بقاء الجيش كمؤسسة حامية للمصالح الأميركية وأمن إسرائيل، والتخلص بالتالي من أزمة الشرعية والانقلاب التي أحدثها السيسي في 3 يوليو 2013، برحيل السيسي نفسه!
تعامل السيسي مع هذه التقارير باهتمام شديد، فقرر على الفور تأجيل الانتخابات البرلمانية مجددا، التي كان مقررا لها أن تجرى في مارس الماضي، بعد أن أجلها سابقا مرة أخرى ( كان مقررا للانتخابات البرلمانية أن تجرى عقب 60 يوما من انتخابات الرئاسة أي في أغسطس/ آب الماضي، ومن قبل كان مقررا لها أن تكون قبل الانتخابات الرئاسية أصلا).
وبعد ستة أشهر عادت الخطورة من جديد، باقتراب موعد إجراء الانتخابات البرلمانية، وعدم قدرة السيسي على صنع برلمان موال له، رغم التزوير المرتقب، لذا فقد قُدمت للسيسي فيما يبدو عدة نصائح أمنية واضح أنها أخذ بها بالفعل، وأهمها:
1 - عدم إجراء الانتخابات البرلمانية تحت أي ظرف وفق الدستور الحالي، الذي يتيح للبرلمان محاسبة الرئيس وسحب الثقة منه.
2 - تدشين حملة إعلامية - شارك فيها السيسي بنفسه ببعض التصريحات - تطالب بتعديل الدستور الحالي، بتوسيع صلاحيات الرئيس، وفتح مدد الرئاسة، وتقليص صلاحيات البرلمان، وحذف أي مادة تتيح لمجلس النواب القادم محاسبة الرئيس أو سحب الثقة منه.
وأغلب الظن أن السيسي سيدعو إلى تعديل الدستور وانتخاب البرلمان الجديد في يوم واحد معا، أو بفارق زمني قصير لا يتعدى الأسبوعين، فقدرة السيسي وإعلامه على حشد الناس للتصويت مرتين متباعدتين (مرة لتعديل الدستور ومرة لانتخابات البرلمان) ضعيفة! فالناس كفرت أصلا بالعملية السياسية وفقدت الثقة فيها، والكل يعلم أن النتيجة لا تعبر عن الصناديق منذ انقلاب 3 يوليو!
3 - قطع الطريق على أي محاولة انقلابية في مصر من مدة الصلة مع واشنطن، وفصل التيار الكهربائي عن خصومه هنا ووزارة الدفاع الأميركية (البنتاجون) ، فمن المعروف أن أي انقلاب أو تغيير في السلطة في مصر لابد أن يحصل على الضوء الأخضر من وزارة الدفاع في أميركا، التي تسيطر حصريا على الملف المصري منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد في 1979!
ورجل أميركا الأول في الجيش هو اللواء محمد
العصار الذي ظل ثابتا في موقعه طيلة السنوات الخمسة الأخيرة، ويعتبر مهندس صفقات السلاح التي يحصل عليها الجيش.
وكلنا يذكر عباس كامل مدير مكتب السيسي في أحد تسريباته حين سأله أحد ضيوفه عن السيسي فقال له: "المشير نزل تحت شوية عند اللواء العصار" !!
وخطورة هذه الجملة ليس فقط في أنها تعني أن الأدنى (السيسي) نزل للأعلى (العصار)، لكن اللافت للنظر هو عدم استغراب أحد من ذلك، مما يعني أنه من المعروف ضمنا داخل الجيش أن نزول المشير عند أحد لواءاته بدلا من أن يصعد إليه الأخير شيء طبيعي!
وحيث أن السيسي لا يستطيع التخلص من العصار الذي من المحتمل أن يكون حلقة الوصل الأهم بين خصوم السيسي هنا ووزارة الدفاع في أميركا، وربما بلغ السيسي أن العصار قام بذلك فعلا، فإن النصيحة التي قدمت للسيسي هو "ركلة لأعلى" أو كما يقول التعبير المصري الشهير "شلوت لفوق"، يتم به تعيين العصار وزيرا للإنتاج الحربي (الحلل والمكرونة وفريق كرة قدم) ليخرج العصار من وزارة الدفاع - مصدر قوته الرئيسية - ويكون من السهل أن يخرج من المشهد تماما في أقرب تعديل وزاري!
في اعتقادي؛ السيسي لم يكن يريد هذا الصدام، ولولا التخوف الشديد من التضحية به لصالح العلمانيين الذين التفوا حوله في مشهد 3 يوليو، لما أقدم على هذه الخطوة.
هؤلاء العلمانيين الذين أرادوا استغلال السيسي فقط للإطاحة بالرئيس المنتخب وفض ميادين الاعتصام بالقوة وإحداث أكبر مجزرة في تاريخ مصر الحديث، ليرثوا هم السلطة والبدء من جديد.
وصف السيسي ذلك بالنوايا الحسنة، لكنه كان غباء شديدا منهم كالذي تمتعت به مراكز القوى في صراعهم مع السادات، فظنوا أنه سيسلمهم السلطة لينفذوا أطروحاتهم في الحكم الرشيد، رغم أن أصغر طفل في الإخوان كان يعلم أن السيسي لم يقم بانقلابه ونفذ كل هذه المجازر ليسلم السلطة لشخص آخر يقف أمامه السيسي ليعطيه التحية، أو لكي يأتي برلمان ينازع السيسي في صلاحياته أو يجوز له محاسبته!
يبقى سؤال مهم؛ لم وافق السيسي على وضع هذه المواد في الدستور، ثم الإدعاء الآن أنه كتب بنوايا حسنة وأن يجب تغييرها؟؟
أغلب الظن أن السيسي حتى كتابة الدستور لم يكن يعلن عن نيته في الترشح للرئاسة، إلا لدائرة ضيقة قريبة منه، وأنه طالب فقط بمادة في السدتور تحصن وزير الدفاع مدتين رئاسيتين (8 سنوات) كمكافأة له من ناحية، وحماية له من أي مساءلة قانونية أو سياسية من ناحية أخرى! وبهذا أعطى انطباعا أنه باق في منصبه كوزير للدفاع، وأنه لن يترشح للرئاسة، بينما في نيته الإبقاء على تماسك التحالف المكون لانقلابه أطول فترة ممكنة حتى الانتهاء من صياغة الدستور، ثم مفاجأتهم بالترشح للرئاسة، وتعديل بعض المواد فيه لاحقا، وما أسهل ذلك!
وبالفعل فإن قرار ترشح السيسي فاجأهم جميعا، ونذكر جميعا تصريح محمد بن راشد الذي قال فيه أنه من الأفضل للسيسي ألا يترشح! كما أبدى شفيق اعتراضه على ترشح السيسي وصرح أن كل الصناديق ستكون مرتبة له!
***
إن الإعلان عن فضيحة الفساد الكبيرة منذ أسبوعين ربما كان الهدف منها فقط التمهيد للإطاحة بالحكومة، والتغيير الوزاري الأخير كان الهدف منه فقط إخراج اللواء العصار من وزارة الدفاع، وربما التخلص من بعض مرشحي البرلمان المحتملين الضالعين في هذا المخطط (حمدي الفخراني) لا أحد يعلم النتائج المترتبة على إخراج العصار من وزارة الدفاع، وهل سيمر مرور الكرام، أم أن لهذه الخطوة تبعات أخرى؟؟
الأيام القادمة حبلى بالكثير؛ هل سيعدل السيسي الدستور بما يقلص صلاحيات البرلمان ويوسع من صلاحياته، أم سيؤجل الانتخابات البرلمانية لحين صنع برلمان يدين له بالكامل بالولاء، أم سيعقد الانتخابات في موعدها،ويحل البرلمان لاحقا إذا استشعر منه الخطر، وفق القوانين العديدة التي أصدرها السيسي خلال عام وتتيح له ذلك؟؟ الأيام القادمة ستكشف ذلك!