خروج عشرات آلاف المواطنين النمساويين بشكل عفوي لاستقبال اللاجئين السوريين وتوزيع الطعام والمساعدات عليهم هو مشهد مفعم بدلالاته الإنسانية. ليس ثمة مؤامرة ولا حسابات سياسية بل هو تعبير شعبي تلقائي عن الخير الكامن في الفطرة الإنسانية، وهو شاهد للمجتمعات الأوروبية على تمكنها من ارتقاء درجة أعلى في سلم القيم الإنسانية.
في التعامل مع الأمم يلزمنا التحاكم إلى معيار منصف حتى لا نشطط في أحكامنا، يلزمنا التحرر من سجن الصور التاريخية، الأمم ليس بالضرورة أن تظل رهينة لماضيها مكبلة بأغلاله، ألمانيا اليوم ليست هي هتلر، وأوروبا ليست هي الحروب الصليبية، ولو كان محكوما على الأمم والشعوب أن تواصل طريق أسلافها لما كان للتوبة والمراجعة والنهوض بعد الكبوة معنى، ولظل الإنسان راسفا في قيود الجبرية والحتمية التاريخية، لكن قصة التاريخ تمنحنا الأمل بإمكانية الانعتاق من كل خطايا الماضي والبدء بكتابة صفحة جديدة أكثر إشراقا..
يقتضي المعيار المنصف أيضا ألا نتعامل مع العالم بأنه كتلة واحدة صلبة وفق ثنائية ملاك أو شيطان، العالم غني بتعدده بما تعجز الرؤى الأحادية والأحكام الاختزالية عن تفكيكه، لا تقل إن العالم متآمر، بل قل لي أي عالم تقصد، هل تقصد روسيا أم أمريكا أم
أوروبا، وداخل أوروبا ذاتها: هل تقصد بريطانيا أم فرنسا وألمانيا أم الدول الإسكندنافية؟ هل تقصد المنظومة الرأسمالية الغربية التي تقدس مصالحها ولا تعبأ في سبيل ذلك بأن تدوس على الأخلاق وبأن تتحالف مع المجرمين والقتلة، أم تقصد القيم الإنسانية التي أنضجها الوعي الجمعي والتي تقدس الحريات وتحترم حق الإنسان في الكرامة والعدالة؟ حين تحدثني عن الغرب أخبرني إن كنت تقصد كونداليزا رايس صاحبة شركة النفط أم تقصد راشيل كوري التي تصدت بجسدها النحيل لآلة الموت الصهيونية دفاعا عن بيوت الفلسطينيين في رفح؟
وإن من ألد أعداء المعيار المنصف
اللجوء إلى المقارنات التي تميع وضوح الحقائق وتقتل جوهرها، فإذا ذكرت لأوروبا استقبالها للاجئين السوريين جادلوك بقولهم: ولماذا لم تذكر استقبال اللاجئين في الأردن ولبنان وتركيا؟
أولا ما جدوى هذه المقارنات؟ إن الفضيلة قائمة بذاتها بغض النظر عن فضائل الآخرين، كما أن الجريمة قائمة بذاتها لا يقلل من بشاعتها مقارنتها بجرائم أكبر، وإن حديث الساعة الآن هو استقبال اللاجئين في أوروبا، هل تجدون مثلا أن القرآن كان يبخس من حسنات أهل الكتاب بمقارنتها بحسنات المؤمنين! القرآن يسلط الضوء على أي حسنة لأي فريق ويعززها ويبدأ بها قبل ذكر السيئات: "وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَار يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ"، "وما يفعلوا من خير فلن يكفروه". إن أردت أن تذكر لأي فريق حسناته فافعل، المهم ألا يكون ذلك بقصد التهوين من حسنات الآخرين.
ثانيا إن فضل الشعوب الأردنية واللبنانية في استضافة اللاجئين السوريين غير قابل للإنكار، لكنه يظل كرما شعبيا عفويا، وإن كانت هناك تسهيلات من الحكومات فهي تأتي في إطار الإجراءات التي يمليها ضغط المرحلة وهي تسهيلات مقدرة، لكن في أوروبا فنحن نتحدث عن منظومة متكاملة أنضجتها التجربة التاريخية، تبدأ من قيم المجتمع وتنتهي بقوانين ملزمة للسلطات التنفيذية تعطي أي إنسان مضطهد في العالم الحق في اللجوء والإقامة الكريمة ومنافسة أهل البلد الأصليين في وظائفهم وجامعاتهم ومراكزهم بل والتفوق عليهم.
إن هذه القيم ينبغي أن تكون موضع إشادة وتقدير وغبطة وأن نعترف لأوروبا بالسبق فيها وأن نتواضع أمامهم ونتتلمذ على أيديهم إن أردنا أن نصل إلى ما وصلوا إليه ثم نتجاوزه، هذا هو الوجه المشرق لأوروبا، أوروبا ليست تاريخا استعماريا وساسة رسميين وحسب، بل أوروبا هي المكان الذي نضجت فيه التجربة البشرية حول ضرورة احترام حقوق الناس وتوفير الملاذ الآمن للمضطهدين والخائفين بغض النظر عن أديانهم وأجناسهم..
كما أن من أعداء المعيار المنصف افتراض الظنون غير المستندة إلى دليل علمي في محاولة لنفي أي قيمة إيجابية غربية، وتحميل ما يبدو إيجابيا على محامل أخرى تفترض المؤامرة وخبث النية، لا يهم أن تفترض أن الغرب يقصد من استقبال اللاجئين الاستفادة من العقول العربية الجبارة ومعالجة مشكلة مزعومة بنقص الكثافة السكانية، أو أن تفترض أنه يريد تنصير هؤلاء اللاجئين عبر توجيههم إلى الكنائس مع أن الغرب ذاته لم يعد مسيحيا فقد طلق الكنيسة ثلاثا ولم تعد تهمه الهوية الدينية كثيرا، أو أن تفترض أنها مؤامرة لتفريغ
سوريا من شعبها وإبقائها لبشار الأسد، حتى وإن كلفهم الأمر أن يدفعوا للاجئين معاشات وتأمينات اجتماعية ويؤمنوا لهم سكنا من ضرائب مواطنيهم، لا يهم أن تفترض أي افتراض فليس ثمة من يطالبك بالدليل والإثبات، المهم أن تخلص النتيجة النهائية إلى أن الأخلاق والإنسانية إنتاج حصري للمسلمين ليس لغيرهم منها نصيب، وأن كل الأمم الأخرى متآمرون وشريرون ليسوا على شيء..
شيوع هذا النمط من التفسيرات غير المستندة لأي منطق ولأي منهجية علمية يكشف عن انعدام الرؤية في فهمنا للعالم المحيط بنا، فنلقي الأحكام جزافا، ولو اجتمع وزراء الخارجية الأوروبيون وقرروا بشكل قاطع منع اللاجئين من دخول ديارهم لوجدت ذات الذين يشككون في دوافع السماح بالهجرة اليوم يقولون انظروا أين ديمقراطيتهم، إنهم لا يحترمون حقوق الإنسان، وهو ما يعني أن الحكم موجود مسبقا، وسواء فعل الغرب الشيء أو عكسه فهو مدان في جميع الأحوال. هذا التناقض في الحكم على الأشياء يذكر بتناقض الذين قال القرآن فيهم: "ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي"، إذ بنفس منطق الآية: ولو منعوا الهجرة لقالوا لولا سمحوا بها، أمؤامرة أم ليست بمؤامرة!
من مخالفات المعيار المنصف أيضا أن نحمل الدول الأوروبية مسئولية إسقاط بشار الأسد دون مراعاة حدود قدراتها، ودون اعتراف بمسئولية العرب أولا عن هذه المهمة. لست خبيرا في السياسة الدولية لكني أرى خطا عاما يقول إن من يملك موازين القوى الفاعلة في الساحة الدولية هما أمريكا وروسيا لا أوروبا، وحين ثارت الشعوب العربية على حكامها فهي لم تكن تراهن على تدخل خارجي لإسقاط هؤلاء الحكام، بل كانوا يراهنون على قوتهم الشعبية الذاتية، فهل يعقل أن نحمل العالم مسئولية عجزنا وفشلنا العربي! حين أسمع من يقول لماذا لا تسقط أوروبا بشار الأسد أقول له: أعطني آلية تنفيذية تستطيع أوروبا بها إسقاط نظام شرس تدعمه دول كبرى مثل إيران وروسيا وأمريكا أيضا بطريقة غير مباشرة.
لست منبهرا بأوروبا، ويمكنني إبداء كثير من الملاحظات عليها في مواطن أخرى، لكن ما أردت قوله هو أننا بحاجة إلى ميزان أخلاقي نحاكم العالم إليه، وألا نستصحب كل عقدنا التاريخية والاجتماعية ومشكلاتنا السياسية لنفي أي قيمة غربية إيجابية. من أراد أن يدين الغرب فليدنه في مواضع الإدانة، أما حين نرى منهم احتراما لحق الإنسان في اللجوء والأمن وصيانة حريته وكرامته فهنا لا يسعنا إلا أن نعترف لهم بالفضل ونقدر حسن صنيعهم، وقد أمرنا القرآن بالعدل حتى مع أعدائنا: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى".