قضايا وآراء

الأحزاب العقائدية.. سؤال الإنسان والتنظيم والسلطة

1300x600
تقول التجربة الحزبية إن اغلب الأحزاب العقائدية تميل إلى فكرة (التنظيم) والتعبئة، ومن حيث أنها أحادية النظرة فإنها لا تتصور نفسها إلا أحادية البنية والتكوين. هذه البنية تقوم على أساس المركزية الشديدة. ومنع ظهور التيارات والكتل داخل الحزب باعتبار أنها تهدد وحدته وتحد من فاعليته (تعبير جيب داخلي تعبير أثير لدى بعضهم)، الحزب يصبح هنـا مثل الجيش النظامي.. ولن تدهش حين تسمع عن أشياء أشد في صرامتها من الجيش تتعلق بالحياة الشخصية والنشاط الفكري والاجتماعي. 

وتمتينا للانضباط بين الصفوف تطبق هذه الأحزاب (أساليب طقوسية) في العمل، مثل التمييز بين الأعضاء بدرجات توثيق متعددة.. وهو الأسلوب الذى يلقى الرهبة في نفوس الأعضاء، ويجعلهم أكثر طواعية بين يدي القيادة. وحزب البعث له في ذلك باع طويل. وقد امتد تأثيره في ذلك على جماعة الإخوان في العراق، وحين سألت أحدهم في ذلك، قال لي: كنا نخشى من اختراق السلطة الباطشة لنا.. لكن المسألة اتسعت عن مقصد الخشية. 

هذه الأحزاب أيضا تعتنق تصورات ورؤى تحاول من خلالها تفسير كل شاردة وواردة بصورة متعسفة وضيقة الأفق، وتتوصل بطريقة مبسطة مسطحة إلى حل الإشكاليات بناء على موقفها ونظرتها الأحادية المطلقة. 

ولعل الإيمان المطلق لأعضاء الأحزاب الأيديولوجية هو الذي يمنحها قوة وثباتا وتصلبا، إلى حد عدم السماح لأي حزب آخر بالمنافسة، بل حتى في الظهور والتكوين.. حتى لو كان يؤمن الأفكار ذاتها!! بل يجب أن يكون في البنية التنظيمية الأم. وتعبير (تحت مظلة الحزب ) هو أيضا من التعبيرات الأثيرة، والقصة ليست المظلة أو غيرة.. القصة في القبضة الحديدية للتسلط. 

يروى لنا أحد القريبين من هذه التجربة أنه أسس جمعية ثقافية استغلالا لوقت فراغه فيما يفيد؛ لأنه من المؤمنين بأن (الوقت هو الحياة)، ويبدو أنه صادف بعض النجاح فتوسع في نشاطه.. فجاءه رسول من قائد الحزب في ضرورة أن يأتي بهذه الجمعية لتكون تحت (مظلة الحزب) فاعتذر العضو النشيط فما كان من قائد الحزب إلا أن فتح عليه النار.. إذ كيف يتأتى له أن يرفض كلمة (القائد الأسطوري) ولا يأتي (تحت مظلة الحزب).. والقصة كما قلنا ليست المظلة أو غيره، الفكرة هي السيطرة والتحكم وإحكام القبضة، وهي خصيصة بشرية موجودة في كل البشر.. ولو تعامل القائد مع هذه الجمعية بمنطق "دع ألف زهرة تتفتح"، لذهب بنفسه وانضم لهذه الجمعية، تأكيدا له على حرية الحركة والانطلاق في مجال الإبداع.. وتزداد المسألة تعقيدا لو كان القائد ريفي النشأة تسود لدية ثقافة (أبونا العمدة). 

تجربة الأحزاب العقائدية عموما في السلطة عبر التاريخ الإنساني ليس لها سمعة طيبة.. فعلى الرغم من أن الأيديولوجيين هم أكثر من عانى من التهميش والاضطهاد، إلا أنهم حين يحوزون السلطة يمارسون الدور ذاته.. ليس على خصومهم فقط، ولكن مع رفاق الدرب المختلفين معهم، وهو شيء إن دل فإنما يدل على حالة غريبة تستدعى الانتباه والتوقف. 

في التاريخ الإسلامي تجارب كثيرة لذلك.. لعل أشهرها تجربة المعتزلة الذين عانوا كثيرا من الاضطهاد وهم خارج السلطة، وما أن عرفت أفكارهم موضع التطبيق، وتمتعوا بخيرات السلطة وجاهها، حتى تحولوا إلى جلادين للمختلفين معهم.. يعود الفضل لوصول المعتزلة للسلطة في عهد المأمون والمعتصم وبعض أيام المتوكل إلى مفكر كبير من مفكريهم يدعى (ثمامة بن أشرس) كان رهيبا، ولم يكن له تسمية وظيفية في دار الخلافة؛ إذ رفض الوزارة وفضل أن يكون في موقع أعلى من الوزارة، ثمامة بن أشرس هو الذى رشح الجاحظ أديب العربية الكبير لمنصب رئيس ديوان الكتاب في القصر..

محمد بن عبد الملك الزيات كان من رؤوس المعتزلة تطورت به الدنيا والأيام، وأصبح وزيرا للمعتصم ثم الواثق.. حين جاء إلى السلطة، انقلب انقلابا دراماتيكيا، وتحول إلى جلاد رهيب، وبالغ في وسائل التعذيب لقمع المعارضين، واخترع لهم آلة تعذيب اسمها التنور (عبارة عن أسطوانة كبيرة مليئة بالمسامير) كان يضع خصمه داخلها، ثم يحميها بالنار.. ويظل صاحبنا يتقلب على النار والمسامير.. وكان الجاحظ ينصحه بالكف عن هذا السلوك المزرى، وقد كانت بينهما صداقة حميمة، وأرسل إليه مرة رسالة يقول في بعضها: (احذر من ليس له ناصر إلا الله، ولا سلاح له إلا الابتهال إلى مولى لا يعجزه من شيء..). 

الأيديولوجيا والسلطة في التجربة الإنسانية محملة بإرث سيئ.. وهذا لا يعنى أن يكون في السلطة من لا يحملون أفكارا ولا عقائد.. ليس هذا مقصدي ولا مرادي، فالمشكلة ليست في الأفراد إذا كانوا أفرادا.. المشكلة تكمن في (الحزب الأيديولوجي) حين يقترب من السلطة أو يحوزها.. من ينسى روسيا وسلطة البلاشفة، ماذا فعلوا بمعارضيهم؟ وماذا فعلوا في بعضهم البعض؟.. تجربة السودان والدكتور الترابي ورفاقه.. التاريخ يعج بالفظائع المريعة في هذا الموضوع.. يجب على الأيديولوجيين وأصحاب العقائد أن يكون الإنسان والمجتمع هو مجال دعوتهم ونشاطهم لا السلطة والحكم..
الأكثر قراءة اليوم
الأكثر قراءة في أسبوع