لوقت قريب، كنت أتصور أن الانشغال بالردّ على دعاة "خلع"
الحجاب أو الدخول في معركة معهم مسألة غير ضرورية، وإن من المفيد لعالمنا الإسلامي الانشغال بأولويات اهم، والدخول في معارك اكبر، وما أكثرها في هذا الزمن الذي يواجه فيه الإنسان العربي المسلم أشرس حملة ترهيب واستئصال واسترقاق، لكنني صدمت حقا من تصريحات ومقالات ودعوات تتردد في بلادنا العربية الإسلامية حول هذا الموضوع وغيره مما يتصل بهويتنا ورموزنا الدينية والثقافية، وترسخت في داخلي قناعة أكيدة، بأن القضية ليست قضية حجاب ولا مناهج ضد التطرف ولا إرهاب يتلطى بالدين زورا وبهتانا، ولا دعوة للانفتاح على العالم، ولا حرية تعبير..
إنها أكبر من ذلك كله وأخطر أيضا، فالمقصود هو الإسلام، وإن كان هؤلاء يخجلون أو يخافون من إشهار اسمه الصريح، والمطلوب هو كل ما يشير إليه، حتى لو كان مجرد "منديل" تضعه النساء على رؤوسهن أو تغطي به وجوههن.
اعرف -بالطبع- لماذا يضع هؤلاء "الحجاب" أو النقاب كعنوان للإساءة إلى الإسلام، أو كمحاولة لإخراجه من دائرة المجتمع وطرده من الحاضر والمستقبل إلى الماضي، وتجريده من كل رموزه وخصوصياته، واعرف - أيضا - لماذا يجرؤ الغرب، بجنرالاته ومسؤوليه (آخرهم احد المسؤولين الأمريكيين الذي حذر العالم من حرب عالمية ثالثة إذا لم يتم استئصال الإسلام الفاشي،) على إعلان الاسم الحقيقي للعدو الذي يفكرون بمواجهته فيما يتخفى بعض "مثقفينا" ومسؤولينا خلف الرموز الإسلامية أو العلمانية المؤمنة! لتمرير أفكارهم وأهدافهم الحقيقية..
ولكنني لا افهم أسرار ودوافع هذه الحملة الشرسة التي تصدر من عالمنا العربي والإسلامي بشكل متواز وبتوقيت واحد ضد هوية امتنا ومقدساتها ورموزها الدينية، ولا افهم لماذا يتطوع هؤلاء -بالنيابة عن الآخر- لزعزعة مجتمعنا، وإرباك أجيالنا ودفعهم لمزيد من التطرف والعنف، ولماذا يصرون على تقديم قضية مفتعلة كتحرير المرأة من حجابها أو لباسها المحتشم (تصور،) على قضية تحريرها مثلا من أميتها أو فقرها أو القمع السياسي الذي يمارس ضدها.. أو حتى تحرير الأمة كلها من الظلم والاستعمار والمهانة والتخلف الذي تواجهه ولا تجد من يجرؤ على مطالبة من يمارسه -وما أكثرهم- بالتوقف عنه.
لقد اختار هؤلاء اللباس المحتشم عنوانا لمعركتهم مع الإسلام وسواء أخطأوا أو أصابوا في هذا الاختيار، فان النتيجة محسومة سلفا، الناس سينحازون اكثر لدينهم، وأعداد المتحجبات سيزداد، وقوى الدفاع الذاتي عن الرموز الدينية -أيا كانت قيمتها الشرعية- ستشتد وتتآزر، لكن ذلك لا يعني أبدا أن المعركة ستتوقف عند "الحجاب"، انتصروا فيها أو انهزموا، إذ لا بد أن تتكشف أهداف وأدوات أخرى ولا بدّ أن تفتح ملفات أخرى، وقد حدث ذلك تماما، فالمعاهد الدينية والمناهج الإسلامية استهدفت وما تزال، والقيم الإسلامية تحارب أيضا، والمؤسسات الإسلامية ابتداء من الأسرة وانتهاء بالجمعيات الخيرية مطلوب تفكيكها، والشباب المسلم محروم من كل الفرص، واللغة العربية لم تعد صالحة للاستخدام.
وهكذا فان رأس الإسلام، كما قلنا سلفا، اصبح مطلوبا.. أوليست محاولات خلع الحجاب إلا مقدمة لقطع الرؤوس أيضا، تماما كما تفعل داعش وإن اختلفت الأشكال والأدوار أو تفريغها من دينها وهويتها وتراثها على الأقل؟ لا مجال -هنا- للحديث عن الحريات الشخصية، أو حقوق المرأة في اللباس وغيره، ولا مجال - أيضا - للدفاع عن القيم الديمقراطية وخصوصيات الأمة وهويتها وضرورات مواجهة العولمة بكل ما تعنيه من تذويب للأطراف في ثقافة المركز.. المجال الوحيد هنا هو اعتبار معركة الدفاع عن حجاب المرأة -حتى وإن اعتبرناه في آخر أولويات ومقاصد الشريعة الإسلامية- معركة الأمة ضد غزاتها وعبيدهم من الناطقين بلغتنا، ليس دفاعا عن "الأغطية" فقط ولكن عن العقول التي يراد عولمتها، وعن الرؤوس التي يبدو أنها أينعت وحان وقت قطافها.