لم يكن زميلنا "
شفيق أحمد علي"، مجرد كاتب مرموق، أو صحفي موهوب، ولم يكن كذلك مجرد إنسان صاحب موقف، وظل مخلصا لقضية رفض التطبيع، ولم يخنها مرة إلى أن لقي ربه فجر يوم الجمعة الماضي.
فـ"شفيق" كان عندي هو الدليل الذي من لحم ودم، على الانهيار الذي جرى للصحافة المصرية، والذي كان بالتراكم، منذ أن تربع على قمة هرم الصحافة في مصر، من كنا نطلق عليه أن كتابه أكثر من قرائه، وانتهى الحال بتخطي من يفتقدون للمهارات المهنية للرقابة، في العشر سنوات الأخيرة، عندما رأينا من يبذلون جهدا جهيدا من أجل صياغة جملة مستقيمة، وقد صاروا هم قيادات الصحف، ونجوم الصحافة، وكتاب المقالات والأعمدة، ومقدمي البرامج التلفزيونية، والضيوف أيضا، في ما عرف بظاهرة "الشلل"، وكان عنوان هذه المرحلة هو تغييب كل أصحاب القدرات المهنية الهائلة، فلم يكن "شفيق أحمد علي" من كتاب الصحف الكبرى، التي تحتفي بالأقل قيمة ومعدومي الموهبة ما داموا من "الشلة"!.
وهذه الظاهرة ليس قاصرة على مجال الصحافة فقط، وإنما كانت حاكمة في كافة المجالات، عندما أصبحت كفاءة المرء عبئا عليه، وإن ظل "شفيق أحمد علي" بموهبته في الكتابة وارتفاعه ليكون علامة في فن التحقيق الصحفي، هو النموذج الواضح في مجال الصحافة، فلو كانت حظوظ الصحفيين تمنح بالقدرات المهنية، لكان "شفيق أحمد علي" علما من أعلام الصحافة في المحروسة، لكن هذا من شأنه أن يدفع بكثيرين من أصحاب الأسماء الرنانة الآن في زمن الزيف، لأن يكونوا صحفيين متدربين في أحسن الأحوال، ومع الرأفة.
لقد تعرفت على "شفيق أحمد علي"، كقارئ في بداية عملي بالصحافة قبل أكثر من ربع قرن، وأنا أقرأ كتابه الذي استعرته من صديق عن قصة "سعد إدريس حلاوة" الذي رثاه "نزار قباني" في قصيدته: "صديقي المجنون سعد حلاوة".
كان الكتاب عبارة عن تحقيق صحفي مطول نشرته جريدة "الأهالي" مسلسلاً، لواحد من أمهر المحققين الصحفيين. وكان "سعد إدريس حلاوة" هو ابن إحدى قرى محافظة القليوبية، وهو شاب عادي بكل المقاييس، لكن في اليوم الذي تقرر فيه اعتماد أول سفير اسرائيلي لمصر بعد معاهدة كامب ديفيد، كان قراره أن يسمع العالم كله برفض الشعب المصري لذلك، فالدم لا يمكن أبدا أن يتحول إلى ماء، والجرائم التي ارتكبتها اسرائيل ضد المصريين والعرب، لا يمكن أبدا أن تسقط بالتقادم، لتنتقل من عدو إلى صديق وتكون لها سفارة يرفرف عليها في سماء القاهرة علم "الدولة الاسرائيلية"!.
احتجز سعد إدريس موظفي "الوحدة المحلية" في قريته، ووضع أعلى مبناها مكبر صوت ومن خلاله كان يبث الأغاني الوطنية، ويقطعها بخطب منه يعلن فيها رفضه لما أقدم عليه الرئيس السادات، وسرعان ما تحول إلى خبر في الإذاعات العالمية، نغص على أهل الحكم في يوم عيدهم، وجاء وزير الداخلية، وحاصرت قوات الأمن المبنى، ولم يكن مطروحا على جدول أعمال " سعد حلاوة"، أن يوقع أذى بالمحتجزين، فهم من أهله، لكنه كان يريد لفت أنظار العالم بما فعل، إلى مصر الأخرى التي لا يعبر عنها السادات بمعاهدة السلام مع إسرائيل.
لقد قامت أجهزة الأمن بتصفية "سعد إدريس حلاوة"، وكانت مهمة "شفيق أحمد علي" المهنية أن يعرف الناس من هو، حتى لا تنجح دعاية الإعلام الرسمي في تبديد موقفه الشجاع الذي كان ثمنه حياته، بترويجها بأنه مجنون.
ولم تكن الإجابة عن السؤال سهلة، فكان هذا العمل المهني مخاطرة أقدم عليها "شفيق أحمد علي"، وكان يجد شحا مطاعا في المعلومات، لأن معظم أفراد أسرته يرفضون مقابلة الصحفيين، ويرفضون أن يدلوا بأي معلومات ولو عادية عن الفتى البطل، خشية تنكيل أجهزة الأمن بهم. وقد ساعده في مهمة البحث والتقصي المحامي الناصري المحترم "محمد بركات" وهو من أبناء القليوبية، ووجه له "شفيق" شكرا خاصا في كتابه، وقد حدثني قبل وفاة هذا المحامي برغبته في زيارته بعد كل هذه السنوات، عندما علم أن ابنه "أيمن بركات" المحامي كان صديقا لي.
كتب "شفيق" تحقيقه، الذي قرأته كتابا، عن "سعد إدريس حلاوة" بحبر القلب، وبأسلوبه الرشيق، وبكلماته الموسيقية، وجملته القصيرة البديعة، فقد قال لي إنه مدين بهذا لأستاذه الراحل "صلاح حافظ" الذي تعلم على يديه العمل الصحفي في مدرسة "روزاليوسف"، فلم يكن مجرد محقق يلم بقواعد التحقيق الصحفي ويتعب في محاولة الإجابة عن الأسئلة المطروحة التي تجعل مما يصنعه تحقيقا مكتمل الأركان، لكنه كان يكتب وكأنه يعزف، وعبر عن "سعد حلاوة" بعزف موسيقي حزين، ولكم أبكاني وأنا أقرأ قصة هذا البطل الذي أراد للعالم أن يسمع صوت مصر الحقيقي الرافض لأن تصبح إسرائيل صديقة لمصر والمصريين، كما أرادها السادات.
وبعد أن شرفت بصداقته، فلم نجلس إلا وأذكره بهذه المقطوعة الموسيقية، وكل كتاباته هي مقطوعات في الواقع، كنت في كل مرة أطلب نسختي من الكتاب، ويخبرني أن نسختي أخرجها في انتظار موعد سابق ليحضرها معه، ولم أتسلمها إلى الآن، قلت له إنه تراودني فكرة تحويل الكتاب إلى فيلم وثائقي ننقل من خلاله قصة "سعد إدريس حلاوة" لأجيال ربما لا تعرفه، وقبل وفاة من كانوا يعرفونه، وإذا كان الظرف السياسي لم يتح لهم حرية الكلام عنه فقد آن الأوان لذلك.
كان يخجل عندما أحدثه عن ما فعلته بي قدرته على التعبير، فقد كان رحمه الله تعالى متواضعا وخجولاً، وقد كتبت يوما: "إذا سئلت عن النبل؟ فقل: شفيق أحمد علي"، لكن هذا الخجول كان يتحول إلى أسد في مواجهة المطبعين، وقد روى لنا نقيب الصحفيين الحالي "يحيى قلاش" موقفا تعجب أن يصدر من هذا الكائن الوديع!.
كان رسام الكاريكاتير "بهجوري" قد عاد من منفاه الاختياري في فرنسا، وكان يبشر بالتطبيع في حدود جلسائه، ولم يكن هذا قد وصل إلى "شفيق أحمد علي" الذي وجده يقف أمام مبنى جريدة "الأهرام" بشارع الجلاء، في انتظار "تاكسي"، وكان مع "شفيق" في سيارته قلاش، فأوقف سيارته لينقل بهجوري إلى حيث يريد، وقد فتح الحديث عن إيمانه الجديد، وفجأة يقف "شفيق" ويقول له بعصبية شديدة: "انزل"!
فقد كانت قضية التطبيع لا تقبل عنده "فصالا" ولا تحتمل فكرة "الخلاف في وجهات النظر"، فالتطبيع مع الكيان الصهيوني عنده خيانة والخيانة في مفهومه لا يمكن أبدا أن تكون وجهة نظر!.
وقد صدر له عدد من الكتب في مواجهة التطبيع، وأعطاني صورا لأصول كتاب عن الشخصيات المصرية التي تمارسه، لا أعرف إن كان قد صدر إلى الآن أم لا، فحتى كتبه التي صدرت لم تصل لعموم القراء، لأنه كان يتعامل مع ناشر كسول، هو صاحب "مركز الحضارة العربية"، الذي هو نصف ناشر ونصف سياسي، ودار النشر تبدو للتسلية بعد أن تقاعد عن العمل النضالي بعد القضية الشهيرة المعروفة بالتنظيم الناصري المسلح، لكن دور النشر الكبرى لا يمكن أن تنشر لـ"شفيق أحمد علي"!.
لقد جعل "شفيق أحمد علي" من مكافحة التطبيع وتعرية المطبعين قضية حياته التي لا يقبل فيها مساومة، ولا يتعامل فيها بقاعدة "جبر الخواطر" مع أنه مجامل بطبعه؛ فقد حدث أن ترشح "صلاح منتصر" لمنصب نقيب الصحفيين، وكان من المعروف أنه مرشح السلطة الذي يحظى بتأييدها، وفي المواجهة كان "جلال عارف" مرشح "تيار الاستقلال"، وكانت الحكومة تقف مع مرشحها بكل قوة، لكن بالرغم من هذه القوة فقد نجح "شفيق" في هزيمته بثلاث مقالات نشرتها له جريدة "العربي" عن الدور التطبيعي لمرشح النظام، فجعل منه بمدفعيته الثقيلة وتمكنه من أدواته في الكتابة، وصدقه، هشيما تزروه الرياح.
ومثل هذا الانتصار لا يزيد "شفيق أحمد علي" إلا تواضعا وكأنه مجرد جندي في معركة الحق، وكان التواضع سمته الغالبة.
منذ ثلاثة أعوام التقيته في مبنى نقابة الصحفيين، وقد جاء مع كريمته الصحفية الشابة التي كان عليها أن تمثل أمام لجنة القيد بالنقابة، وقد جاء مشجعا لها، وعندما اطلعت اللجنة على اسمها كاملاً كان السؤال حول ما إذا كانت بالفعل هي ابنة "شفيق أحمد علي"؟، فلما كانت إجابتها بـ"نعم" سألوها عنه لتخبرهم بأنه يقف خارج مكان الاجتماع، فخرجوا لمصافحته.
بدا صاحبنا ممتنا لهذا الموقف، وعبثا حاولت إفهامه أنهم بما فعلوا فقد كرموا أنفسهم، وأثبتوا انتماءهم للمهنة، فعضوية الصحفي في نقابة الصحفيين لا تكتمل إلا بمعرفته وإنزاله منزلته.
لقد مات "شفيق أحمد علي" ولا يعرفه كثيرون من أبناء الجيل الجديد في بلاط صاحبة الجلالة، التي تربع على عرشها أشباه الصحفيين الذين أثبتوا أن الدنيا حظوظ، وإذا أقبلت باض الحمام على الوتد، وإذا أدبرت بال الحمار على الأسد.
رحم الله "شفيق أحمد علي" الصحفي، والكاتب، والفنان.
azouz1966@gmail.com