كان طبيعيا أن يصل الحال إلى هذه النتيجة الشنيعة، أي أن تصبح هناك منظّمات استيطانية متطرفة تمارس عمليات إرهابية شبه يومية في
الضفة الغربية والقدس، فمشروع الاستيطان فيهما انتعش وتضخم بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة، وخصوصاً بعد استتباب الأمن والغياب القسري لعمليات المقاومة في الضفة والقدس، والمستوطنات الصغيرة غدت مدنا كبرى، وإحصائيات المشهد الاستيطاني تتجاوز كثيراً ما هو معلن، لدرجة أن تعبير (سرطان الاستيطان) لم يعد يكفي لوصف واقعه، إذ يكفي أن تسافر من جنوب الضفة إلى شمالها لتقف على حقيقة الكارثة، حيث تزاحمك سيارات المستوطنين في جميع الشوارع، وبأعداد مهولة، وحيث لا تجد تلة أو جبلاً أو موقعاً جالباً للأنظار إلى وتشخص قربه وحدات سكنية استيطانية أو يكون مصادراً وفي طريقه للتحول إلى مستوطنة جديدة.
منذ أن حلّ مطلب (تجميد الاستيطان) مكان إزالته في مفاوضات التسوية، كان مفهوما أن هناك خديعة كبرى يجري التعاطي بغباء معها، ولامبالاة بمآلاتها، وأن دولةً
فلسطينية خالية من المستوطنات باتت جزءاً من أوهام الماضي، ولعل سكان الضفة الغربية والقدس هم أكثر من يدركون أن الدولة الفلسطينية باتت أكذوبة كبرى، لأن كل مدينة أو بلدة كبيرة فيها يوجد ما يوازيها ويجاورها من التجمعات الاستيطانية الواسعة، فحتى لو خلُصت أية تسوية إلى توجّه يلزم
إسرائيل بتجميد الاستيطان، فإنه لا مجال أبداً لإزالة ما هو قائم أو تفكيكه. وكيان الاحتلال يعرف ذلك تماما ومعه المجتمع الدولي، أما ضحايا الخديعة فهم فقط من يراهنون على أن تحرّكا دبلوماسيا يتم تصويره معارك كبرى يمكن أن يجلب لهم الدولة ويكنس الاستيطان وينهي الاحتلال!
أما المعضلة الأساسية في فلسطين، وتحديداً في أماكن سيطرة السلطة فهي أنها مطالبة بتوفير الأمن للمستوطنين والمستوطنات، وضمان إبقاء الشارع الفلسطيني هادئاً ومشلول الحركة بعد كلّ جريمة ترتكبها العصابات الصهيونية المنظمة، وكيف لها ألا تكون منظمة وهي ترى نفسها ذات بأس وقوة مقابل مجموع الشعب الفلسطيني الأعزل في هذه المناطق، والذي يبدو عاجزاً عن دفع الأذى عن أراضيه الزراعية وممتلكاته إن تعرضت لعدوان أو حريق، فضلاً عن جرائم المساس المباشر بالسكان؟!
يحدث هذا وسيحدث أكثر في ظل اختلال معادلة القوة ومداها، وفي ظل اليقين المتعاظم في صفوف المراقبين في كيان الاحتلال بأن السلطة كفيلة بإجهاض أية هبة غاضبة عقب كل جريمة من جانب المستوطنين، وفي ظل معاينتهم حجم الوفاء لالتزامات التنسيق الأمني من قِبل محمود
عباس وسلطته.
وكيان الاحتلال الذي يراقب المشهد وتدهشه خلاصات الأحداث في مناطق السلطة لن يكون معنياً بردع المنظمات الاستيطانية المتطرفة، ولماذا يفعل وهو يرى أن عملها يساهم في تعزيز حالة الإخضاع للوعي الفلسطيني، وفي تثبيت الحالة الاستيطانية على أرض الواقع كحقيقة غير قابلة للمساس، ما دام أعلى سقف للمطالبات الفلسطينية الرسمية هو تجميد الاستيطان، وأبعد مدى لأفقها بُعيد أية جريمة هو إطلاق وعود بالتوجه لمحكمة الجنايات الدولية وتكثيف الحراك الدبلوماسي!
وحده الخروج من قيد اللحظة إلى رحابة الواجب من سيتكفّل بإزالة شيء من هذا التشوّه عن وجه المرحلة، لأنها تعدّ الأسوأ والأقذر على مرّ تاريخ الصراع الفلسطيني مع الاحتلال، حيث بات لهذا الاحتلال ذراع فلسطينية ترسم توجّهاته بإرادتها وجهلها في الوقت ذاته، وحيث تضاءلت الأثمان التي يدفعها مقابل احتلاله واستيطانه، وارتفع منسوب إملاءاته على أرض الواقع، حتى لم يبقَ من مفهوم الدولة الأكذوبة سوى تلك الكانتونات الضيقة التي ينحشر فيها الفلسطينيون، في ظل قيادة احترفت قهر إرادة الفلسطيني وطموحه بالحرية على نحو من النذالة غير مسبوق.