توترت العلاقة بين الدولة والحركة الإسلامية في الأردن على إثر اعتقال نائب المراقب العام لجماعة الإخوان المسلمين الأستاذ زكي بني ارشيد بتهمة تعكير صفو العلاقات مع دولة شقيقة عبر موقع التواصل الاجتماعي- فيسبوك في تشرين الثاني/ نوفمبر 2014. وفي المقابل فقد كان رد فعل الجماعة متزنًا؛ حيث استهجنت اعتقال بني إرشيد ومن ثم الحكم بسجنه عامًا في آذار/ مارس 2015. وقد اعتبر الكثيرون هذا الحادث تطورًا مهمًا في توتير العلاقة مع الحركة ، حيث انه وبرغم قيام الأمن سابقا باعتقال أو التحقيق مع العشرات من أفرادها على خلفية قضايا رأي، ورغم دورها في ضبط الشارع الأردني تحت سقف إصلاح النظام خلال الربيع العربي. غير أن هذا التحول ظلّ رهن التحليل بين من يعدّه خطوةً تصعيديةً ومن يرى فيه خطوة معزولةً استجابةً لاعتبارات كثيرة.
وقد تسربت الكثير من المعلومات حول حقيقة الأزمة، لكن تشجيع مجموعة من القياديين السابقين على تشكيل جمعية مناوئة لجماعة الإخوان تحمل نفس الاسم فيما عرف بـ “جمعية الإخوان المسلمين” دفع الأمور إلى مربع جديد من التوتر الفعلي، وأفادت الكثير من التسريبات أن ثمة قرار حقيقي بشق الجماعة واستهدافها لإضعافها، وربما لسحب شرعيتها السياسية والقانونية.
ومثلت عدة إجراءات “جزئية” بمنع الجماعة من القيام بفعاليات اجتماعية ودينية وسياسية معتادة برنامج مواجهة لم يَخفَ على كل المراقبين، ومع ذلك فقد تزايد التساؤل بشأن الغاية التي تخدم مصالح الأردن العليا، ، من وراء هذه الإجراءات.
ومن هنا، ظهرت الأزمة بوضوح، وظهر تحليليا أن الدولة ربما قررت إعادة النظر بقواعد العلاقة التاريخية بين الطرفين، فيما لا زال الغموض يلف الأسباب الموجبة لذلك على الصعيدين السياسي والاجتماعي، حيث مثلت جماعة الإخوان تاريخيًا لبنة أساسية في الوحدة الوطنية بين المكونات المناطقية والجهوية للمجتمع الأردني، كما شكلت صمام أمان لمنع انزلاق البلاد إلى أعمال العنف والفوضى في اعوام 1957 و1989 و1991 و2011 وهكذا.
ولذلك فإن فهم طبيعة الأزمة واتجاهاتها أصبح مصلحة وطنية ومهمة تاريخية بغض النظر عن الموقف الفكري أو السياسي من الجماعة، لأن الأمر أصبح يتعلق بمصلحة البلاد ومستقبلها وليس بمجرد مصلحة مجموعة من السياسيين أو بحزب صغير هنا أو هناك، مع الأخذ بعين الاعتبار أن جماعة الإخوان تمثل القوة الشعبية الأكبر في البلاد على مدى العقود السبعة الماضية.
من حيث المبدأ قامت العلاقة بين الإخوان والدولة على الحرية في العمل وحفظ الوحدة الوطنية والمحافظة على الاستقرار والأمن في البلاد، وعلى العمل السلمي المدني بكل مستوياته، وظل التعايش هو سيد الموقف بين الطرفين حتى في ظل مناوشات أمنية من الدولة وسياسية من الإخوان في عدد من المحطات السابقة، فظل الملك يعتبر هذه الجماعة ضمانة مهمة من ضمانات استقرار الحكم والأمن في البلاد، وبذلك شكلت فلسفة التعايش أساس العلاقة بين الإخوان والدولة، وظلت قواعد العلاقة بينهما غير قابلة للاختراق حتى في ظل تحولات علاقات التيار الإسلامي بحكومات كثيرة في المنطقة.
وتمتع الإخوان بشرعية اجتماعية وقانونية وسياسية على حد سواء، وكان للجماعة دور مهم في العمل السياسي في البلاد منذ انطلاقة الديمقراطية الأردنية الجديدة عام 1989، وشكلت الجماعة قطب المعارضة الابرز في سياساتها ومواقفها، لكنها لم تسجل على نفسها موقفًا واحدًا مناهضًا لمصالح البلاد، بل كانت تبرر معارضاتها بالحرص على مصلحة البلاد، ما أبقاها جماعةً وطنيةً غير متهمة، وتحظى باحترام أطياف المجتمع بكل منابته، وأراحت الدولة في المقابل لأنها لا تناكفها ولا تزاحمها ، وإنما تسعى للمشاركة السياسية وتطالب بتعديلات دستورية وفق قواعد الدستور والنظام العام.
وأسست هذه العلاقة سياسة الدولة بعدم استهداف الجماعة، وذلك رغم قيامها بجهود محسوبة لإبقائها ضمن حجم معين سياسيًا واجتماعيًا ودينيًا، وبما لا يعطيها القوة لفرض مواقفها على البلاد والدولة، وهو ما مثلته العديد من الإجراءات التعطيلية لأنشطتها وتوقيف العديد من أفرادها وبعض قياداتها، بل وتحجيمها في الانتخابات البرلمانية بوسائل متعددة دفعتها إلى إعلان المقاطعة عدة مرات، والتضييق النسبي على بعض مؤسساتها، ومنعها من التوسع في العمل الاجتماعي والمدني في البلاد، وظل القصر الملكي يدعم فكرة اعتدال الجماعة ورشدها وشرعيتها في عهدي الملك الحسين والملك عبدالله الثاني، اي طيلة 65 عامًا.
ولذلك فإن التوقف عند أسباب ودوافع التوتر بين الجانبين ودوافعه وتداعياته، ولمصلحة من؟ ومن يقف خلفه؟ تعد مسالة وطنية بالفعل، وإن إنصاف الجماعة والموضوعية في التعامل مع مواقفها كما النظام الأردني إنما يصب في مصلحة الفهم والبحث عن خيارات أفضل بديلاً للتوتير وإثارة القلق في معادلة الوحدة الوطنية، خاصةً بعد انسياب اتهامات مرسلة بأن الجماعة اصبحت توجهاتها فلسطينية، وكأن قضية فلسطين ليست من صلب السياسة الأردنية، كما أن إثارة مسألة الأصول الفلسطينية لقيادة الجماعة يدفع بمعايير الانقسام المجتمعي الخطرة إلى السطح ، الامر الذي يهدد النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية، خاصةً وأن المئات من القيادات في الدولة من أصول فلسطينية او على صلة بفلسطينيين نسبا وشراكة وغيرها.
ولذلك فإن مقتضى الوطنية والعلمية والموضوعية يفرض التوجه لرسم معالم الخروج من الأزمة وليس تعميقها، خاصة إذا ما علمنا أن من أخطر تداعيات توتر العلاقة بين الطرفين، وانقسام الإخوان، وتدخل الدولة لصالح طرف منهم ضد طرف آخر، هو فقدان الدولة لدور الرعاية يقوم استقرارها أساسًا على التوافق والعقد الاجتماعي، وعلى التوفيق بين مكونات البلاد، ورعاية مصالحها الجمعية دون تمييز، كما أن الدولة الأردنية أسست نفسها كدولة قانون ودولة مواطنة، فكيف يمكن تسويغ هذه التصرفات من البعض تجاه جماعة أردنية وطنية معتدلة، حتى لو اختلف معها في الرأي والموقف السياسي أحيانًا؟
يؤرخ البعض لتزايد عنصر التوتير مع الإخوان في الأردن بالربيع العربي عام 2011، ويؤرخه البعض الآخر بفوز الإخوان بحكم مصر عام 2012، فيما يربطه آخرون بسقوط حكم الإخوان في مصر عام 2013، لكن الحقيقة الجامعة أن هذا المستوى من التوتر طارئ على قواعد العلاقة وعلى سلوك الدولة الأردنية مع الجماعة، بل ومع الجماعات المثيلة والحزبية، ما يُبقي الفرصة متاحةً تمامًا لإعادة التقييم، وفق منهجية واضحة.
ولذلك لا بد لأي بحث في الموضوع ان يتبع منهجية واضحة وعلمية تستقرئ وتستشرف ماذا استفادت البلاد من هذا التوتر؟ وما قيمة إضعاف جماعة ملتزمة بالقانون والنظام وتعمل في العلن وتدعم الاستقرار والأمن وتمثل خط الاعتدال، وتشكل رافدًا مهمًا من روافد الوحدة الوطنية؟ كما ينبغي الإجابة على اسئلة استراتيجية من مثل ما هي المصلحة الوطنية المتوخاة من تصعيد التوتير واستمراره، وما هي المصالح التي فقدت بهذا التوتير؟
إن طاولة الحوار تمثل دومًا القاسم المشترك بين الناس عمومًا والسياسيين على وجه الخصوص، وهي أدعى بين أفراد العائلة الواحدة التي تمثلها حالة الأردن بنظامه التوافقي، وعلاقاته الاجتماعية القوية، وتماسك بنيانه العشائري والعائلي بين كل المنابت بلا استثناء، والذي تصهره علاقات النسب والقرابة والدم، وتمنحه أفضلية على كثير من الأقطار الأخرى، ولذلك فإن ، فتح أبواب الحوار المباشر وغير المباشر، واعتماد الصراحة في تناول القضايا الخلافية، ، والإفصاح عن طبيعة السياسات والمواقف الحقيقية حيال ما يجري في المنطقة من قبل الجماعة، ومشاركة اصحاب القرار في رأب صدع الجماعة ودعم وتشجيع تماسكها للمحافظة على الوحدة الوطنية، ومواجهة التحديات الكبرى التي تواجهها البلاد، وتوفير أجواء الحرية للدعوة الاسلامية المعتدلة وبرامجها وقياداتها والتي يمثل الإخوان رافعةً مهمةً فيها، إن تبني مثل هذا التفكير اليوم أصبح ملحًا على قيادة البلاد وقيادة الإخوان في آن واحد، كما هو ملح على العقلاء، وهم كثر، من أبناء هذا البلد العزيز.
ونظرًا لما يُلحظ من تحولات في سياسات البلاد وإعادة التموضع الإقليمي والداخلي على عدد من المحاور، فإن عودة العلاقة بل وتحسنها بين الدولة والإخوان سوف يوفر الجهود الوطنية ويوحدها لمواجهة التحديات ويزيد من عوامل الأمن والاستقرار فيها، خاصةً إذا ما تبعه تعديل حقيقي وجاد لقانون الانتخاب ليسمح بوجود هذه الجماعة عبر حزبها السياسي في الحياة السياسية العامة.
وفي حال نجاح هذا التوجه فإن الأردن بالفعل يستجمع قواه الداخلية المهمة وقوته البشرية المميزة وتعايشه وتكامله الداخلي ليشكل دولة قوية موحدة مستقرة قادرة على التعامل مع المتغيرات الداخلية والخارجية من تطرف وإرهاب، أو من نظريات توسعية لدى بعض الاطراف، أو من محاولات النيل من قيمة البلاد من أطراف أخرى، أو من محاولات استغلال حاجات الأردن وحكمته من قبل البضع الآخر. وبذلك يتمتع الأردن بقوة وثقة على التغيير اللازم لتعديل أي سياسات أو هياكل في الدولة وهو مسنود الظهر، محميٌّ بالوحدة الوطنية.
ختامًا، فإنه مما لا شك فيه أن مثل هذه المقالة لا تتسع لبحث التفاصيل التي ربما غابت عن سطورها، لكن العودة إلى أدبياتنا السابقة وأدبيات الدولة وأدبيات جماعة الإخوان فيما يتعلق بهذه الأزمة يُثري ويدعم الكثير من الأفكار الواردة في هذه المقالة- والتي أردنا منها وضع الأزمة بين الإخوان والدولة في إطارها الفكري والسياسي انطلاقًا من المصالح العليا للبلاد، والتي لا تغيب عن صانع القرار أهميتها في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ المملكة في ظل التهديدات المحيطة بها، والتحديات التي تواجهها.
الأمر الذي يجعل من حل الأزمة والتراجع عن الاستمرار فيها مصلحة متحققة للدولة، كما هي مصلحة متحققة للإخوان، وبالتالي فهي مصلحة كبرى للبلاد، وإن هذا التحول اللازم في بوصلة الأزمة يلعب فيه الدولة والإخوان والمجتمع والقوى الوطنية والإعلام دورًا مهمًا ورائدًا.