لم يعد خافيا بان النظام الأردني يدعم جمعية جماعة الإخوان المسلمين، وهذا ظهر واضحا وجليا من خلال السرعة في إنجاز
ترخيص لها باسم جماعة الإخوان المسلمين دون المرور بالنظام البيروقراطي المعتاد، ومن ثم الفتوى القانونية التي صدرت من ديوان التشريع والرأي بجواز نقل أملاك الجماعة الأم للجماعة المرخصة، وبعد ذلك تم نقل كثير من تلك العقارات إلى ملكية جمعية الجماعة المرخصة، وفي المقابل عبرت الحكومة وعلى لسان رئيسها مرة وعلى لسان وزير التنمية السياسية مرة أخرى، بأن الحكومة لا تتعامل إلا مع الجمعية المرخصة، ووصف قبل ذلك بيان لوزارة الداخلية الجماعة الأم بعبارة "ما يسمى جماعة الإخوان"، وفي ذلك دلالات واضحة في سقوط شرعية الجماعة الأم قانونيا لدى النظام، وجاء بعد ذلك قرار منع إقامة فعاليات الجماعة في الذكرى السبعين لتأسيسها، وتوالى المنع في شهر رمضان بمنع الجماعة الأم من إقامة إفطارها السنوي.
بناء على هذا الاستهداف للجماعة الأم من جهة والاحتضان للجمعية المرخصة من جهة أخرى، تثور عدة تساؤلات تدعونا للتأمل، لنفهم الواقع كما هو بعيدا عن لغة الاتهام والتخوين الجزاف، أو محاولة إغماض العيون عن فهم ما خلف طبيعة هذا الاحتضان.
(1) عدم ثقة
لن نستطرد في عرض طبيعة العلاقة ما بين النظام الملكي الأردني وجماعة الإخوان، إلا أننا سوف نلخص هذه العلاقة في ثلاث مراحل.
المرحلة الأولى : مرحلة التأسيس إلى ما قبل اتفاقية وادي عربة، وهي مرحلة امتازت بأنها المرحلة الذهبية لجماعة الإخوان المسلمين في الساحة الأردنية؛ إذ بقيت الحركة تغفو في حضن النظام بألم مرغوب تعمل وتتمدد تحت عين الدولة وبصرها لمدة نصف قرن أو أقل بقليل، مرحلة كانت جميع القوى اليسارية والقومية تعاني التضييق والتهميش والإقصاء. في هذه الحقبة تم حل حكومة النابلسي البرلمانية وحل البرلمان وتجفير الحكومة والنواب، وتم تعطيل الحياة السياسية وبقيت الجماعة تعمل وبضوء أخضر من النظام، حتى أضحت القوة الأولى في الشارع وانعكس ذلك على نتائج الانتخابات في عام 1989 إذا بلغت نسبة النجاح 92%من المقاعد التي ترشحوا عليها، وشغلوا حينها 29 %من مقاعد مجلس النواب.
المرحلة الثانية: من عام 1993 التحضير العلني لاتفاقية وادي عربة والتوقيع عليها إلى مرحلة اندلاع الربيع الأردني، امتازت هذه المرحلة في سعي الحكومات المتعاقبة على تحجيم دور الإخوان في الحياة العامة والتضييق عليهم، ومحاصرتهم وتصفية أماكن نفوذهم في الاتحادات الطلابية ووجودهم البرلماني عبر متوالية من التشريعات التي تحد من نفوذهم، وتزوير الانتخابات إلى أن أوصلتهم إلى مرحلة أن يكونوا خارج المؤسسات الرسمية، سياسة أضعفت التيار الإصلاحي وأخرجته خارج قمرة القيادة وتكلل ذلك في إسقاط الشيخ الفلاحات من القيادة الجماعة في عام 2007 في سابقة هي الأولى من نوعها أردنيا.
المرحلة الثالثة: مرحلة الربيع العربي وما جرى به من أحداث، فقد عبر العاهل الأردني إلى قيادات الحركة الإسلامية في لقاء الطاولة المستديرة، على أن الثقة بينه وبين الحركة غير موجود، وأن منشورات صحيفة أتلانتك التي أوردت على لسان الملك أنه يصف الإخوان بالذئب المتخفي بصورة حمل، ويصف العشائر بالديناصورات، أصدر الديوان بيانا أن العاهل الأردني لم يصف العشائر بتلك الأوصاف، وأن العشائر ركن من أركان النظام في الأردن ومحل احترام وتقدير القصر، لكن البيان لم ينف وصف الإخوان بما وصفهم به، فكان البيان تأكيدا أن القصر غير مرتاح للإخوان ودورهم داخل الأردن.
(2) الأردن المملكة الجديدة
وإن كان الملك تحدث عن مملكة جديدة سوف يورثها لابنه في غمرة الربيع العربي أقرب إلى نموذج المملكة المتحدة البريطانية، إلا أن الكلام في حينه فهمه البعض على أنه امتصاص لموجة الربيع العربي، وتنفيس الاحتقان الذي كان سائدا في الأوساط الشعبية والسياسية، إلا أن تطورات الأحداث الأخيرة أعادت الأضواء لتلك التصريحات وجعلتها محل اهتمام ومتابعة من جديد.
غياب العاهل الأردني عن المملكة لمدة شهر، وتصريحات إعلامية أنه كان في حالة مشاورات مهمة مع قيادات محلية حول تغير في المناصب العليا وإعادة ترتيب البيت الداخلي، تزامن مع ظهور ولي العهد بشكل مكثف في الإعلام وتدشينه بعض المشاريع، حضور أظهر بأن ولي العهد في طريقه إلى أن يكون جزءا من صناعة القرار في المرحلة القادمة، فيما تحدث البعض عن تكرار النموذج القطري في القريب وخلال بضعة سنوات، وانتقال سلس للسلطة للأمير الشاب في ظل الحديث عن إقرار تشريعات مؤسسة ولاية العهد، وتوسيع سلطات ولي العهد ليكون جزءا من إدارة شؤون البلاد في المرحلة المقبلة.
كل ذلك يجري في ظل تقديم قانون البلديات الجديد ومشروع قانون الأقاليم الجديد للدورة الاستثنائية، وهي من أكثر التشريعات حساسية وتأثيرا بعد قانون الانتخاب البرلمانية في الحياة السياسية.
في الوقت ذاته، يعاد الجدل بقوة حول قانون الانتخابات البرلمانية ودفن عنقاء قانون الصوت الواحد، الذي يخرج كل مرة من تحت الركام، والذي سيكون ناجزا وفق تأكيدات رسمية قبل نهاية ولاية مجلس النواب القائم، والذي يبدو أنه فلت من شبح الحل قبل نهاية ولايته، مما يعني أن بداية ملامح المرحلة القادمة ستكون خلال السنوات الثلاث القادمة، وأن أول إرهاصاتها ومخاضها ستكون في بداية صيف 2017 عبر الانتخابات البلدية وانتخابات الأقاليم .
من كل ذلك يرى المراقبون بأن الأردن يتجه نحو عهد جديد وترتيبات للبيت الداخلي بشكل متسارع نسبيا، ويبدو أن إعادة هيكلة وتأهيل الإخوان جزء من هذه الترتيبات التي يجب أن تتم قبل إطلاق المشروع لتفادي أي عثرات لترتيبات تلك المرحلة.
(3) إعادة تأهيل الإخوان
النظام الأردني يدرك أن الحقبة الحالية هي لمد الإسلام السياسي كما كانت حقبة الستينيات والسبعينيات للمد اليساري، وأن تكلفة إعادة هيكلة الإخوان وتأهيلهم ليكونوا جزءا من المملكة الجديدة أقل تكلفة بكثير من اتباع النموذج المصري في عزلهم عن الحياة السياسية، إذ من دونهم وبغيابهم سوف يبقى نموذج العهد الجديد الذي بدأت تظهر ملامحه أعرج، وهذا ما يفسر رفض النظام الضغوط التي مورست عليه في إدراج الإخوان على قوائم الإرهاب بعد أحداث مصر.
البعض يرى بأن النظام الأردني لا يثق بقدرة الإخوان وطرحهم السياسي الحالي على أن يكونوا في قيادة الصف الأول للأردن؛ كونهم تيار محافظ أممي غير براغماتي لا يحسن إدارة العلاقات الخارجية للأردن، الذي يتسم بالحساسية الدقيقة كونه بلدا يعيش على المساعدات الخارجية، ويحتاج مهارة ومرونة عالية في إدارة تناقضات السياسة الخارجية بما لا يؤثر على تدفق المساعدات الخارجية.
النظام في الأردن يدرك أن أي انتخابات حرة ونزيهة سوف تأتي بالإخوان المسلمين كأغلبية في مجلس النواب ومن ثم قيادة دفة الحكم، وواضح أن ذلك هو ما لا يريده النظام وهم بهذه الصيغة الفكرية، والذي يتشكك بقدرتهم على إدارة ملف العلاقات الخارجية والمساعدات الدولية.
سابقا سعى النظام إلى إشراك الإخوان في عدد محدود في البرلمان وصناعة الحياة السياسية، وعرض عليهم عددا محددا من وزارات الخدمات، إلا أن تمنع الإخوان جعل النظام يزيد المعروض في غمرة الربيع العربي في المجال الخدمي، دون أن يؤثر في المعادلة السياسية الخارجية القائمة التي تحول دون وجودهم كرقم أول في صناعة السياسة الخارجية للدولة.
من الواضح أن بعض ممارسات الشباب الإخواني غير المنضبطة في التعرض لرأس النظام في الهتافات، واستخدام وسائل إسقاط الأنظمة في بعض فعاليات الجماعة في الربيع الأردني؛ كاعتصام دوار الداخلية المفتوح وتمنع قيادات الإخوان عن المشاركة في دور واسع ومؤثر في مؤسسات الدولة، الذي عرض في حكومة معروف البخيت الثانية وحكومة الخصاونة، ورفضهم المشاركة في الحوار الوطني ولجنة تعديل الدستور التي طالبوا بها، يبدو أن كل ذلك أوصل النظام إلى قناعة بأنه لا يمكن اعتبار الإخوان بصيغتهم الحالية شركاء في العهد الجديد، وفي الوقت لنفسه لا يمكن تجاوزهم، وأنه أصبح من المهم إعادة تأهيل الإخوان، من خلال احتضان التيار الإصلاحي الأكثر براغماتية، الذي يصفهم إعلام النظام بـ"التيار المدني أو الليبرالي الإخواني".
ويعتقد أنه من خلال دعمهم سيمكنهم من إعادة صياغة خطاب الحركة وتحويله من مشروع أممي إيديولوجي، إلى مشروعي وطني مدني يساعد النظام في تمرير مشروع الملكية الجديد الذي بدا الحديث عنه بقوة هذه الأيام، مما سيسرع في التحول نحو الملكية الدستورية التي بشر بها رأس النظام في الربيع العربي.
التيار المدني الإصلاحي من داخل الإخوان الذي ذهب إلى خيار الترخيص، نجح حتى الآن في صياغة خطاب وطني لمشروعه الجديد من خلال ما يطرحه منظره الدكتور رحيل غرايبة في الإعلام، ونجح في الوقت ذاته في تحقيق مكاسب قانونية على الأرض لصالح كيانه الجديد، ويحقق بالوقت ذاته اختراقات معقولة في كسب القواعد في داخل الصف الإخواني، وإن كانت بطيئة نسبيا ولكنها ضمن الشيء المتوقع والمخطط له على ما يبدو، إذ يمكن القول بأن معركته على القواعد سوف تؤتي أكلها بعد انتهاء ولاية المكتب الحالي، وتعذر إجراء انتخابات شورى قادمة لأكثر من سبب معظمها داخلي، مما يعني أن التيار المدني الإصلاحي سوف ينجح في إعادة صياغة خطاب الحركة خلال السنوات الثلاث القادمة، مما يجعلها أكثر أهلية للانخراط في مشروع المملكة الجديد، الذي سوف يقتصر دورهم على ما يبدو في العقد القادم على التركيز على الوزارات الخدمية والإصلاح الداخلي والاهتمام بحاجات الناس، وحياتهم المعيشية من خلال ما يملكونه من كفاءات بشرية ونظافة يد.
هذه قراءة قد تصيب وقد تخطئ، في محاولة فهم احتضان النظام للجمعية واستهداف الجماعة قراءة مبنية على بعض الوقائع على الأرض، ومحاولة ربطها لتشكل لنا قراءة أخرى غير سلوك الطرق عقلية المؤامرة والتخوين والتشكيك في فهم تفسير الأحداث، الذي لن يسعف أحدا في تجاوز الأزمة للحركة الإسلامية وتقدمها.