الايام الثلاثة الماضية منحتنا جميعا شحنة حماس منقطعة النظير، ربما لاننا متعطشون لحدوث اشياء تجلب بعض الامل. واجمل ما حصل هو ان المظاهرات التي كانت تهدد بسحل الحكومة، تحولت الى فعل يحمي الشرعية ويساند الحكومة. بحيث ان الكثيرين من المؤيدين المتحمسين للمظاهرات، صاروا مرتبكين جدا. كانوا يريدون تصفية خصومهم عبر ركوب الموجة، لكن خصومهم نجحوا في "تصفيتهم".
والسيد
المالكي مثال بارز على هذا، بعد ان خسر منصبين كبيرين في اقل من عام واحد!
وبعد ثالث ايام الحماسة والنشوة، علينا ان نعود لطرح الاسئلة. فتاريخنا
العراقي مليء بالانقلابات والتحولات والثورات. وكل تلك اللحظات الحاسمة كانت تتبنى بحماس شديد، فكرة الاصلاح. وكان الحال يشبه حالنا اليوم، فكل فريق يؤمن بنسخة خاصة للاصلاح تناقض الاخرى. نوري السعيد كان يؤمن بتنمية وتحديث بطيئين، وعلاقة متينة بالغرب. انصار الزعيم كانوا يحبون التجارب الاشتراكية (تأميم، اعادة توزيع الارض، اقتراب من اساليب موسكو). البعثيون طرحوا خلطتهم الخاصة من "الاصلاح" ثم غاصوا بالدم. وهكذا. والسؤال اليوم، ماذا يختلف مشروع اصلاح السيد حيدر
العبادي، عن المشاريع السابقة؟
ان عبارات "القضاء على الفساد، واختيار الكفاءات، ووحدة الوطن ضد المحاصصة.." هي اشياء حلوة ترددت على لسان كل زعماء التحولات العراقية وغير العراقية منذ الاربعينات. وهي تتردد اليوم على لسان المتظاهرين، وفي اوراق الحكومة واجراءاتها. وخلال بضعة ايام باتت كل الاحزاب السياسية تردد العبارات نفسها. ومن يجرؤ على المعارضة؟ لكن السؤال المطروح اليوم: ايها العبادي الطيب والمحظوظ، كيف ستضمن النجاح، بعد فشل عشرين محاولة سابقة كانت تحلم بالاصلاح او تزعم
الاصلاح؟
لا احد، ولا العبادي، لديه ضمانة. لكن هناك اجراءات تجعلنا نشعر باطمئنان نسبي ونبلور توقعات وتقديرات معقولة. منها ان نعرف: من هو الفريق الذي يقوم بوضع برامج الاصلاح؟ هل هناك خبراء من وزن ثقيل؟ هل هناك تكنوقراط عراقيون معروفون في مختلف البلدان، سيجري الاتصال بهم، لكي نكون لاول مرة امام رأي علمي، لا امام استعراض سياسي مليء بالغباء، كالغباء الذي تحدث عنه نوري المالكي يوم اعلن فشل مشروع المحطات الغازية لتوليد الكهرباء، قائلا بنحو صادم: "هو احنه عندنا غاز، حتى نشتري محطات تشتغل بالغاز؟ هذا غباء". ولا احد سأل المالكي: انت الذي انفقت 700 مليار دولار طوال حكمك، ألم تسمع من حاكم خليجي او اعجمي، ان هناك شركات استشارية، تضع الخطط المضمونة، للتخلص من الغباء؟
ان السؤال عن الفريق الذي سيضع الاصلاحات ويراقب تطبيقها، هو سؤال تاريخي: هل ستتكرر خيباتنا، ويختلط الخداع بحسن النوايا، وتتبدد فرص جديدة؟ ام ان العبادي يتعلم من اخطاء 90 سنة هي عمر العراق الحديث، وسيكون شاطرا في الانجاز، لا في التحكم والسيطرة والتغول والتفرد، لا سمح الله؟ اؤكد لكم اننا سنحصل على جواب واضح خلال بضعة شهور، لكن المهم ان لا يكون اوان الفعل الايجابي قد فات.
لكن الامر برمته يتطلب منا ان نتخلص من فكرة سيئة اكررها اليوم. اذ يعتقد البعض ان احزاب السلطة شريرة، وحين نقوم "بسحلها" سيبقى الطيبون فقط ويشكلون حكومة اشراف نجباء. لكن علينا الانتباه الى ان وضع العراق الحالي من شانه خلق الف حكومة شريرة وعاجزة. ان كل طيب وشريف سيصبح شريرا بنحو تلقائي، اذا كان في بلد تنقصه القواعد والضوابط التي يجب ان نتعلمها من التجارب المتقدمة. والحل لا يكمن في سحل الساسة ولا في تدمير المنطقة الخضراء. بل في تحديث قواعد السياسة والادارة والاقتصاد عبر "التصالح مع الاجنبي" والشراكة المسؤولة معه. لان ظهور "عبقرية محلية سحرية" امر غير ممكن، حتى لو حصلنا على افصح الخطابات، واجمل المشاعر المتحمسة.
(نقلا عن صحيفة المدى العراقية)