كتب عبد الرحمن الراشد: فشلت محاولات تجميل "جبهة
النصرة"، وضمها إلى معسكر الثورة السورية، رغم كل ما تلقته من رعاية وتسليح، ورغم تصنيفها بأنها أقل وحشية من شقيقها تنظيم "
داعش".
فالجماعتان إرهابيتان، من امتدادات تنظيم "القاعدة" الأم. "داعش" امتداد لجماعة الزرقاوي الذي قتل في العراق، أما "النصرة" فقد أعلنت رسميًا أنها تتبع لقيادة الظواهري، قائد "القاعدة" الحالي.
ويتقاتل في
سوريا اليوم ثلاث قوى مختلفة؛ النظام السوري وحلفاؤه، والثانية الجماعات الإرهابية مثل "داعش" و"جبهة النصرة"، والثالثة المعارضة الوطنية السورية المعتدلة، وأكبرها "
الجيش الحر".
والداعمون ثلاث قوى؛ الأولى إيران تدعم نظام الأسد، والثانية تؤيد المعارضة الوطنية المعتدلة، مثل "الجيش الحر"، والثالثة تدعم المعارضة الإرهابية، تحديدًا "النصرة".
الفريق الأخير، ظن أنه ذكي فقرر ترويض أحد الوحشين. اختار "النصرة" لأنها، بخلاف "داعش"، لم تبث فيديوهات مروعة، وكانت تقبل بالتفاوض والمساومة. وأهداف "النصرة" لا علاقة لها بمطلب السوريين في انتفاضة الربيع العربي، غايتها السيطرة وبناء دولتها المنافسة لـ"داعش".
ورغم وضوح الفروقات بين الوطنية والإرهابية، فقد غامرت هذه القوى الخارجية بدعم "النصرة"، معتقدة أنه يمكن ترويض الحيوان المتوحش، واستئناسه بالمال والسلاح، والسيطرة عليه، وركوبه إلى نهاية الطريق ثم التخلص منه لاحقا!
كانت قيادة "النصرة" أكثر ذكاء من "داعش"، حيث سايرت هذا الانطباع، وساومت على من خطفتهم ولم تذبحهم جميعًا. ومكافأة لها على ذلك استثنيت من الملاحقة، وغض النظر عن تنقل مقاتليها عند المعابر والحدود.
دوافع الفريق الذي تبنى "النصرة" أنه كان يريد توظيف جماعة شرسة، يعتقد أنها قادرة على هزيمة قوات الأسد المعروفة ببطشها، ومقارعة حزب الله وبقية الميليشيات المتطرفة، ذات الخلفية الفكرية والعسكرية المشابهة لـ"النصرة". وبالفعل، حقق التنظيم نجاحات عسكرية، ومئات من أعضائه نفذوا عمليات انتحارية في سوريا، غيرت بعضها مسارات القتال.
ورغم هذا بقيت "النصرة" جماعة إرهابية يستحيل ترويضها، وأهدافها تصطدم ببقية القوى السورية المعارضة، التي تعتبرها كافرة ويحل قتالها. إذاً، ما الفائدة من التخلص من قوات الأسد السيئة وإحلال تنظيم سيّئ مثلها؟!
هؤلاء الاستراتيجيون الذين يفكرون تكتيكيا في حل مشكلة اليوم فقط يغمضون أعينهم عن النتائج المدمرة غدا. يكررون ما حدث في عقدين مضيا، عندما دعم البعض حزب الله وجماعات فلسطينية منشقة حتى صار خطرها أعظم على لبنان وفلسطين.
في السنوات الثلاث الماضية جرى تهميش "الجيش الحر"، الذي كان مظلة القوى السورية المعارضة، ورفض رفع شعارات التطرّف الديني أو الفئوي الإقصائي. أما "النصرة" ليست إلا جماعة إرهابية استفادت من اللعب على حبال التناقضات، بما في ذلك حبل النظام السوري الذي كان يسهل الحركة لها لضرب المعارضة.
وهناك فريق آخر أيضا أخطأوا الحساب. استراتيجيون غربيون ظنوا أن التضييق على التنظيمات السورية الوطنية المعتدلة مثل "الجيش الحر" سيجبرها على القبول بالحل السياسي، والعمل تحت قيادة نظام الأسد للخلاص من الفوضى! النتيجة جاءت عكسية، فقد أضعفوا المعتدلين ليحل محلهم المتطرفون.
صارت الجماعات المعارضة السورية المعتدلة ضحية للفريقين المتنافسين على إدارة الأزمة. فريق يريد إضعافها للتوصل لحل سياسي، وفريق يريد تقوية الجماعات المتطرفة للحصول على انتصار عسكري سريع. كلاهما ثبت أنه مخطئ، كما اتضحت الأمور اليوم على الأرض. فإضعاف المعتدلين وسع من الفراغ في داخل سوريا، والنظام عمليًا شبه منهار منذ عام 2012، ويستحيل أن يحكم إلا المناطق الموالية له طائفيًا، وهي نسبيًا صغيرة.
"النصرة" صارت محاصرة لهذا وجهت عملها لمقاتلة المعارضة السورية بحجة أنها متحالفة مع الغرب ضدها! وقد أعلن التنظيم القبض على 54 عنصرا، مدعيا أنهم تلقوا تدريبات عسكرية في تركيا في إطار برنامج أمريكي. تقول "النصرة" إن المقبوض عليهم عبروا الحدود بهدف مقاتلتهم و"داعش".
وسواء كان الخبر صحيحا أم لا، فعدد المنخرطين في البرنامج الأمريكي لا يصل إلى مائة شخص، لأن أغلبية المعارضة رفضته، والأمريكيون أيضا رفضوا معظم المتقدمين، خشية أن ينقلبوا عليهم ويلتحقوا بالجماعات المعارضة المسلحة.
(عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، 5 آب/ أغسطس 2015)