داخل حانة "عند مصطفى" يتراقص رجال ونساء مدينة أبي الجعد
المغربية تحت نظر وسمع مصطفى، مالك الحانة.
تتجول الكاميرا بين زبائن الحانة قبل أن تتوقف على رجل أبله ضخم الجثة، بلباس عسكري جالس على كرسي "الزعامة" وهو يوجه التحية العسكرية للمتراقصين بكل زهو وافتخار.
كان ذاك آخر يهودي بقي بالمدينة المغربية بعد
هجرة وتهجير يهودها، كما يرويها فيلم "فين ماشي يا موشي؟" للمخرج حسن بنجلون. وكان ذاك مشهد نهاية الفيلم بما له من دلالات سنتبينها مع فقرات المقال أدناه.
بين الممثل يوسف شعبان الذي كان صرح قبل أشهر، خلال استضافته على قناة صدى البلد المصرية، أن من بين كل عشرة مغاربة يوجد ثمانية يهود، والممثلة إلهام شاهين التي منحت
اليهود، خلال استضافتها على قناة أبو ظبي قبل أسبوع، نسبة عشرين في المائة من تعداد سكان المغرب، صارت اليهودية ديانة شعب المغرب بنسبة مائة بالمائة.
لا إشكال؛ فعلاقة الاثنين بالموضوع لا تتعدى مشاركة الأول ممثلا في أجزاء مسلسل "رأفت الهجان"، ومحاولة الثانية الدفاع عن مسلسل "حارة اليهود" الذي اكتشف معه المصريون العدو الحقيقي بعد أن عاشوا لعقود على دعاية كانت تعتبر الكيان الصهيوني عدوا، والعهدة، من بين كثيرين، على "رأفت الهجان".
ليس غريبا أن ينطق بعض "المشخصاتية" بما لا يفقهون، فقد عادوا نجوم الشاشات يسألون عما لا يعرفون فيجيبون بحماسة واندفاع. كان كلام يوسف شعبان في إطار استحضاره معلومة تاريخية أخرى جعلت حسن البنا مغربيا، وبما أن غالبية المغاربة "يهود يخفون ديانتهم ويتظاهرون بالإسلام لتنفيذ مخططاتهم" فمؤسس جماعة الإخوان المسلمين واحد من اليهود.
أما إلهام شاهين فقد رأت أن نسبة العشرين بالمائة من اليهود المغاربة تشفع لها لتقوية "تحليلاتها" في مسألة التعايش الديني والتفريق بين اليهودية والصهيونية، ولو استدعى الأمر حشو "حارة اليهود" بمغالطات تاريخية كثيرة، فالهدف المعلن واحد وتزوير التاريخ وسيلة لتحقيقه في إطار الحرب على "الجماعة الإرهابية" في الحاضر المصري.
يعود تاريخ التواجد اليهودي بالمغرب إلى عهود قديمة عاشوا خلالها تحت رعاية مختلف الممالك الأمازيغية قبل العربية التي حكمت البلاد. وفي التاريخ المعاصر استفاد هؤلاء من حماية السلطان
محمد الخامس لهم من نظام فيشي الفرنسي، خلال سنوات الحماية الفرنسية للبلد، فصاروا واحدة من أكبر الجاليات اليهودية بالدول العربية. لكن إعلان تأسيس الكيان الصهيوني قلب كثيرا من أسس معادلة الانتماء والمواطنة والاستقرار، فشهدت البلاد موجات هجرات متعددة انتهت بإفراغها من مكون أصيل من مكونات الهوية الوطنية.
وتعود أولى دفعات هجرة اليهود المغاربة إلى الكيان الجديد إلى بدايات "التأسيس" سنة 1948 حيث بلغ عدد الملتحقين به ما يقارب التسعين ألفا، كان معظمهم من الحرفيين الصغار الباحثين عن آفاق اجتماعية واقتصادية أفضل. كان اليهود يشكلون وقتها عشرة بالمائة من السكان كأكبر نسبة لهم عبر تاريخ وجودهم بالبلاد. وكانت تأسست أول صحيفة محسوبة على الحركة الصهيونية بالمغرب في العام 1926 تحت اسم "المستقبل المصر" للتبشير بالدولة اليهودية الناشئة.
ومع استقلال المغرب، منتصف خمسينيات القرن الماضي، انطلقت موجة هجرة وتهجير ثانية بشكل أكبر.
داخل حانة "عند بيير" بمدينة أبي الجعد، من فيلم "فين ماشي يا موشي؟"، زبناء متفرقون على الطاولات يحتسون كؤوسهم..
الزبون 1: لا أعرف سبب هجرة اليهود بعيدا.
الزبون 2: ربما بسبب وفاة محمد الخامس وتأثر الاستقرار السياسي بالبلاد.
مسير الحانة: وماذا سيحل بالحانة؟
الزبون 3: لقد علمت أن هناك محفزات مادية كبيرة لمن يختار الهجرة.
الزبون 2: نعم، إنهم يساعدونهم. كما أن الدولة المغربية متواطئة مع الإنجليز والإسبان ويبيعون اليهود مقابل المال للتهجير إلى فلسطين.
مسير الحانة: يا سادة، ما لنا ومال فلسطين وانجلترا. ما الذي سيحل بالحانة؟ رجاء ابحثوا لنا عن حل.
كان مسير الحانة المغربي مهتما بمصير الحانة، التي يخطط لشرائها من صاحبها الفرنسي، بالنظر إلى أن القانون كان، ولا يزال، لا يبيح بيع الخمور إلا للأجانب ولغير المسلمين حصرا. وبعد مغادرة المستعمرين الفرنسيين لم يعد من مبرر لاستمرار فتح الحانة غير تواجد اليهود بالمدينة. وأمام حملات الهجرة والتهجير التي تفرغها منهم أصابه الفزع على تجارته ومشاريعه الاستثمارية.
وقتها، كان ممثلو الوكالة اليهودية يجوبون مدن وقرى ومداشر المغرب في حملة استقطاب لعائلات بأكملها استجابة لحاجة الكيان الصهيوني لكتلة بشرية يبرر بها وجود "شعب يهودي" مشتت يسعى للعودة إلى "أرض الميعاد".
وفي سبيل ذلك لم يعدم المبشرون بالجنة الموعودة إغراءات وتهديدات من مصير مظلم ينتظر الأقلية اليهودية ببلدانها الأصلية. وكان لغرق سفينة "أكوس"، التي كانت تقل عددا من اليهود المهاجرين سرا في اتجاه إسبانيا سنة 1963، وقع كبير على تسريع الوتيرة والأعداد وتحول الهجرة من السرية إلى العلنية بعد ضغوطات دولية دفعت في ذلك الاتجاه فغضت الدولة الطرف على الموضوع بل ساهمت فيه، ما استطاعت، في محاولة من الراحل الحسن الثاني للتمكين لحكمه في مواجهة معارضة شرسة كانت تحاول تقويضه وإسقاطه.
في حفل عرس بمدينة أبي الجعد، يجتمع أعضاء المجلس البلدي (كناية عن الأحزاب والطبقة السياسية الوليدة بعد الاستقلال) على إحدى الطاولات.
الرئيس: اليهود يغادرون الواحد تلو الآخر، شلومو هو الذي لا نعرف له قرارا.
عضو 1: استغرب كيف تسعدون لهجرة اليهود. لا تنسوا أن بينهم الطبيب والمهندس والمحاسب.
عضو 2: جيد. هكذا سيتركون وظائفهم للمغاربة.
عضو 3: عفوا. لكن هم أيضا مغاربة.
الرئيس: بالطبع، بالطبع. هدفنا من مغادرة شلومو هو إغلاق الحانة.
وفي مشهد آخر من فيلم "فين غادي يا موشي؟"، يجاهد مالك الحانة، الذي كان مسيرا لها قبل أن يشتريها من أصحابها الفرنسيين ويحول اسمها إلى "عند شلومو" باعتباره الضمانة الوحيدة لاستمرارها، لإقناع الأخير بالبقاء.
مالك الحانة: علمت أن الخمر في فلسطين تصنع بماء البحر وجودتها سيئة، وكل الحانات في قبضة مالكين بولونيين. هل تتحدث البولونية؟ كيف يمكنك تقديم الطلبات كما تفعل معنا نحن؟ أرأيت؟ لماذا ستهاجر إذن هناك؟
مع الهزيمة المدوية للأنظمة "العروبية" في حرب الستة أيام، بما مثلته من سقوط مدو لأساطير تحرير الأرض وهزم الصهيونية ورفع العربي رأسه عاليا، بعد أن مرغه الطيران الصهيوني في الأرض، شهدت الدعاية الصهيونية انتعاشا غير مسبوق بالمغرب، وكان نتاج ذلك هجرة ما تبقى من اليهود في اتجاه دولة رأوا أنها الأقدر على حمايتهم، رغم كل ما واجهه سابقوهم من تهميش وإقصاء، كان من سماته الأبرز ظهور منظمة "الفهود السود" التي قادت تظاهرات حاشدة دفاعا عن حقوق اليهود "الشرقيين" ومن بينهم المغاربة، حيث رفع بعضهم راية حمراء بنجمة خماسية وصور الملك محمد الخامس دليل "انتماء" لبلد الأجداد.
واستمرت وتيرة الهجرة والتهجير حتى صار يهود المغاربة واحدة من أكبر الكتل البشرية المستوطنة لفلسطين برقم تقدره بعض الكتابات بما يقارب المليون، بل صار كثير منهم "صقورا" في المؤسسة العسكرية والأحزاب اليمينية المتطرفة، لدرجة أن الملك الراحل الحسن الثاني كان يقول دوما إنه يملك أكبر حزب سياسي في
إسرائيل.
بداية شهر تموز/ يوليو الجاري، كشف تقرير جديد صادر عن معهد التخطيط الإسرائيلي، وهو مركز بحثي في مدينة القدس المحتلة، أن عدد اليهود الذين ما زالوا يقطنون المغرب، يبلغ حوالي 2400 يهودي.. وهو رقم أبقى المغرب في صدارة الدول العربية حيث يعيش معتنقي الديانة اليهودية، والثاني أفريقيّا بعد جنوب أفريقيا حيث يقطن سبعون ألف يهودي.
تلك باختصار قصة اليهود المغاربة الذين كان المشارقة يعايروننا بهم ذات زمن، وصاروا اليوم يستحضرونهم للتنظير للتعايش الديني. القصة وما فيها أن الكيان الصهيوني، كما وفق في زرع دولته على أرض فلسطين، استطاع إفراغ دول المنطقة من مكون أساسي من مكونات هويتها الوطنية وحولهم إلى سلاح فتاك في مواجهتها مستفيدا، من بين أسباب كثيرة، من الحماسة الغوغائية التي سادت المنطقة لعقود. وهو نفس الكيان الذي يسعى اليوم بما أوتي من جهد دبلوماسي وأبواق عديدة لابتزاز نفس الدول من خلال المطالبة بالتعويض على أملاك "مواطنيه" التي "سلبت" منهم خلال مختلف موجات الهجرة والتهجير، وهي قصة تبقى مفتوحة على كل الاحتمالات.
وتلك أيضا، وباختصار شديد، حكاية "الحانة العربية" التي لا تستطيع الاستمرار والعيش في غياب "جنرال أبله" بنياشين تزين بذلته، راعيا لمغيبين وأبواق وراقصات يعطين الدروس في الفن والسياسة والدين والتاريخ والجغرافيا. لا عيب إذن أن تتحدث إلهام شاهين ومعها يوسف شعبان عن يهود مغاربة لا يعرفون أن من بينهم مواطنون مغاربة يحملون أسماء كأبراهام السرفاتي وإدمون عمران المليح وسيون أسيدون وغيرهم كثيرون. ولا سمعوا عن حكايا معاصرة كتلك التي تصدرت العناوين بالمغرب قبل أشهر عن السيدة مارسيل وزوجها شالوم اللذان تمسكا بالمغرب بلدا فكافأتهما الدولة المغربية، وهم في أرذل العمر، بإفراغهما بالقوة من شقتهما المتواضعة، التي كانت تقيهما بالدار البيضاء، لا بتل أبيب أو بأسدود، برد الشتاء وحرارة الصيف.
ويستمر "الجنرال الأبله"، كما في الحانة عند مصطفى، مؤتمرا بأوامر الأسياد ومتربعا على كرسيه الوثير يوزع التحية العسكرية على المتراقصين أمامه بكل زهو وافتخار .