لم يكن الشنآن اللفظي الذي جمع رئيس الحكومة
المغربية عبد الاله بنكيران ووزيره في العدل مصطفى الرميد بالأمين العام للمجلس الوطني لحقوق الإنسان محمد الصبار، خلال يوم دراسي خُصِّص لمناقشة فصول مسودة القانون الجنائي المغربي الجديد، ليمر دون أن يثير الكثير من السجال ويفتح الآفاق مشرعة أمام حلقات متواصلة من الشد والجذب بين مختلف الفاعلين السياسيين والجمعويين المغاربة، لا تتوقف حتى تبدأ من جديد، حول مفهوم الهوية المغربية والتيارات الدخيلة عليها.
كثيرة هي النصوص التي جاءت في المسودة وأثارت اللغط حولها من عقوبة الإعدام مرورا بالإجهاض ووصولا إلى ما تعلق بـ"استهداف الحريات الفردية". ولم يكن لنص مثل "يتوفر عذر مخفض للعقوبة في جرائم الجرح أو الضرب دون نية القتل ولو نتج عنها موت، إذا ارتكب أحد أفراد الأسرة على أشخاص فاجأهم بمنزله وهم في حالة اتصال جنسي غير مشروع"، إلا أن يعلن بوادر أزمة لم يزدها الشنآن بين المسؤولين العموميين الثلاثة إلا اشتعالا مع استحضار ما يسمى بـ"جرائم الشرف" التي اعتدنا سماع أخبارها في كثير من الدول العربية المشرقية على الخصوص.
ففي معرض المناقشة التفت رئيس الحكومة إلى الأمين العام وسأله: ما أنت فاعل لو وجدت شخصا غريبا مع زوجتك في السرير؟ فكان جواب الثاني: سأغلق الباب عليهم وأستدعي الشرطة. فما كان من الأول إلا أن بادره: لم تمت الحَميّة في المغاربة إلى هذا الحد. ولتأكيد الأمر، سانده وزير العدل بالقول إن المثالية غير موجودة في المغرب حتى يغلق الزوج أو الزوجة الباب على شريكه في الحياة عندما يخونه مع إنسان آخر ثم يلجأ للنيابة العامة.
على طاولة طعام ببيت العم أبو صبحي، يجتمع الأخير باثنين من أبنائه وابن أخيه جميل. وعلى وقع التهام الطعام يبدأ أبو صبحي بالحديث.
العم أبو صبحي: شوف يا جميل، الشرف مبيعرف هذا ولد صغير وهذه بنت كبيرة. الشرف بيعرف أنه فيه رجيل ولا كلياتنا نسوان. جمانة بنت صغيرة.. يعني لسه عم نسيطر عليها.. هي عصاي، هي كف، هي كلمة يمشي الحال. بس إيمان فلتانة على كيفها من محل لمحل بحجة الغنا. والغنا هذا ايلا ما يكون فيه وراه شيء. جوزها ملتهي بالسياسة والأخبار.. أصلا نهايته مثل رشيد.
يبارك الابنان كلام الوالد ويزيدان من عندهما.
العم أبو صبحي: المهم اختك يا جميل. فهمان علي؟ وهلا صار الأمر يهمنا كلياتنا ولازم نتصرف بدون تردد. مفهوم؟
لم يكتف أبو صبحي باستثارة الأخ بل تعداه إلى زيارة أبيه المريض.
العم أبو صبحي: إيمان عابت..
الأب: أنت شفتها؟
يحرك العم أبو صبحي رأسه إيجابا.
الأب: (بعد ألم شديد) و ايش عم تستنى؟
صدر القرار ونفذه الأخ بطعنه أخته قبل أن يتم العم أبو صبحي المهمة من سلاحه الناري، لتقضي إيمان في انتظار ضحية أخرى ستسقط، لا محالة، بداعي الدفاع عن الشرف وقد تستمر سورية أو يأتينا خبرها من أقصى المغرب على المحيط الأطلسي.
قصة إيمان ليست تخيلية بل هي قصة واقعية جرت أحداثها في الخامس والعشرين من العام 2001 بمدينة حلب السورية، وحولها المخرج محمد ملص إلى فيلم سينمائي بعنوان (باب المقام) أربع سنوات بعد ذلك. يومها، أقدم عم وابناه وابن أخيه على وضع حد لحياة ابنة أخيه لمجرد الشك في أخلاقها وسلوكها بذريعة حبها للموسيقى وتغنيها بها طوال اليوم. كانت تلك قرينة لا يرقى الشك إليها في انحرافها عن الطريق القويم دون أدنى اعتبار لرأي زوجها، "الوصي الشرعي" عليها بعد الزواج. صدر الحكم ونفذ بدماء باردة لم تشفع فيها قدسية علاقة الدم والقرابة للبنت والأخت أو حتى منحها حق الدفاع عن النفس وتبرير التصرفات التي اعتمدت دلائل اتهام ضدها.
وفي الوقت الذي تشهد فيه الدول التي تعرف كل سنة عددا من "جرائم الشرف"، نقاشا يدفع باتجاه تغليب سلطة القانون على شريعة "الغاب" التي تمنح المرء إمكانية أن يكون القاضي والجلاد في الآن ذاته، يبدو أن هناك من يحاول استيراد نموذج سيئ بدل تكريس مكتسبات دولة القانون وحماية المؤسسات وإلزامها بتنفيذ صلاحياتها دون شريك. وحوار مثل الذي ميز ندوة القانون الجنائي المغربي، وإن كان لا يصح بين مسؤولين عموميين، يوضح مدى اتساع الهوة بين فريقين في المجتمع والسلطة تتنازعهما خلفيات إيديولوجية تطفو للسطح غداة كل نقاش حقيقي لمشاريع ترهن مستقبل المغرب للعقود القادمة. لكن الواضح أن الطرفين النقيضين لا يتوانيان عن النزوع إما إلى "الشعبوية" أو "الاستفزاز" لدفع الطرف الآخر إلى ارتكاب الأخطاء أو التخندق وراء تقديم التبريرات والبحث عن المخارج لمشاكل تبدو، في غالبها، مفتعلة لكنها مؤثرة في العقل الجمعي للمغاربة كما العالم الخارجي.
لم تمر إلا أسابيع قليلة على هذه الواقعة حتى رأينا كيف حاصر مواطنون، بسوق شعبي بمدينة إنزكان، فتاتين بلباس قيل إنه "غير محتشم" قبل اعتقالهما وتحويلهما لمحاكمة تبرأ الجميع من المسؤولية عنها وكأنها تتم ببلد آخر غير المغرب. ورأينا كيف حاصر مجموعة من المواطنين "مثليا" بمدينة فاس واعتدوا عليه. وكيف أن البعض رفع لافتة بشاطئ مدينة أغادير يطالبون فيها السياح المصطافين بـ"الاحتشام".... وكلها وقائع استغلتها أطراف سياسية للاحتجاج على "الفكر الدخيل" على التقاليد المغربية الراسخة، لدرجة استدعاء قصة "زواج عرفي" يخص أحمد منصور ومناضلة بحزب العدالة والتنمية المغربي والاستماع إليها من طرف الضابطة القضائية في الموضوع، دون أن ننسى دعوة "المفكر المصري الكبير" سيد محمود القمني، شهر رمضان، ليصول ويجول في ربوع البلد نافثا أفكارا جاهزة، كان الغرض منها تأجيج الجدل والدفع به إلى التصعيد. وأمام تلاحق هذه "الأزمات" لم تجد الحكومة برئيسها عبد الاله بنكيران ووزير العدل فيها مصطفى الرميد غير الاصطفاف مع بيانات وزارة الداخلية المؤكدة على أن "
السلطة حريصة على أن لا يكون لها شريك في الدفاع عن أي اختلال حصل أو أي شيء من شأنه أن يمثل مخالفة للقانون والأخلاق". وأضاف رئيس الحكومة أن "مثل هذه الانزلاقات لن يسمح بها وسيتم التعامل معها بصرامة، وأن من له رأي أو شكاية فعليه أن يلجأ إلى السلطات وأنه لن يسمح بتاتا بأن يقوم أي شخص أو مواطن بما يزعم أنه تطبيق للقانون". يبدو أن حَميّة المغاربة في طريقها للاحتضار كما كثير من الشعارات التي لم تصمد أمام حقائق السلطة والحكم. وقد يأتي علينا يوم نسمع فيه ما يشبه مقولة بنكيران من أن المغاربة ردوا على مهرجان موازين بتوافدهم الشديد على المساجد لأداء صلاة التراويح!
اختار محمد ملص وقائع الغزو الأمريكي للعراق والحملات الانتخابية لمجلس الشعب السوري، خلفية سياسية لأحداث فيلم (باب المقام) لبصم الحدث "العادي" بأبعاد أكثر شمولية، تتخذ من الوضع السياسي العام إطارا جامعا لتفسير التغيرات السلوكية لدى الأفراد كما الجماعات. فالقصة بتراجيدية أحداثها الواقعية لا بد لها أن تصبح تعبيرا صادقا عن تحولات مجتمع سوري معاصر، تعتمل داخله صراعات وتناقضات، تتوزع بين الرغبة في الانفتاح والحداثة وبين الجنوح إلى المحافظة والانغلاق، في بداية ألفية كانت منبئة بتطورات مصيرية، ظهرت كثير من تجلياتها ولا تزال تتفاعل حتى اليوم. فقد غزت الجيوش الأمريكية العراق وحولته إلى دولة مليشيات وخراب، ودخلت سوريا في أتون حرب أهلية حولتها لدولة عصابات نظامية وجماعات تكفيرية وخراب. والبقية في الطابور تنتظر دورها بخنوع واستسلام.
في المشهد الأخير الذي أعقب مقتل البطلة، خرج الفتى المعاق، المتلصص الدائم على غنائها، صارخا في الشارع بأعلى صوته: لقد قتلوا الأغنية، لقد قتلوا الأغنية..
لم يفعل الجيران غير إغلاق أبواب نوافذهم خوفا من المجهول و درءا للمشاكل، في مجتمع يراد له أن يظهر بمظهر الخانع والمغلوب على أمره في مناخ يغلب عليه التسلط والعنف والوصاية أسريا ودولتيا.
أما في المشهد الافتتاحي من الفيلم، فكانت جلست إيمان على ربوة مطلة على حلب المدينة، وبجانبها زوجها عدنان، المدمن على التتبع السلبي لنشرات الأخبار.
إيمان (وهي تنظر لحلب من أعلى): "تعرف، عم بتذكر يا عدنان لما كنت صغيرة جابني أخوي رشيد (معتقل سياسي بالفيلم) هون وشفت حلب. أيامها كانت حلب كلها أغاني وطرب. يالله! إيش قد تغيرت حلب".
كان هذا في العام 2001.
أكان انتصار الرغبة في الحياة والتمرد على التقاليد والتسلط والاستبداد، كما جسدتهما إيمان، قادرا على تجنيبنا المآل الذي نعيشه خمس عشرة سنة بعد ذلك؟ و ما الذي كانت ستقوله إيمان لو كُتب لها أن تعيش لترى حال حلب اليوم؟
بعدها نعود لنلتفت مع بنكيران ونسأل: ما أنتم فاعلون لو وجدتم شخصا غريبا مع زوجاتكم في السرير؟ وما أنتن فاعلات لو وجدتن امرأة غريبة مع أزواجكن في السرير؟
إن احتاج الأمر، كما العادة، لتحكيم ملكي فلا فائدة في انتخابات ولا حكومة ولا أحزاب ولا برلمان!