نشرت صحيفة ليبراسيون الفرنسية تقريرا حول السياسة التي ينتهجها
تنظيم الدولة في مدينة
تدمر السورية التي سيطر عليها مؤخرا، وسعيه لكسب ثقة السكان الحائرين بين الخوف منه، والخوف من قصف النظام السوري وطائرات التحالف الدولي.
وقالت الصحيفة، في هذا التقرير الذي ترجمته "عربي21"، إن عناصر تنظيم الدولة أظهروا حتى الآن رغبة في حسن التعامل مع سكان تدمر ومواقعها الأثرية، ولكن رغم ذلك، فإن التصرفات التي ارتكبها هؤلاء المقاتلون في السابق في مدن أخرى تجعل السكان غير قادرين على الشعور بالاطمئنان.
وتحدثت الصحيفة في هذا التقرير عن عائلتين سوريتين، التقتا في استراحة على جانب الطريق الصحراوية التي تربط الرقة بتمدر، وكانت كل من العائلتين تركب سيارة محملة بالأمتعة والركاب. إحداهما هربت من القصف الجوي الذي يشنه التحالف الدولي ضد مدينة الرقة التي اتخذها تنظيم الدولة عاصمة له، والثانية هربت لأنها تخشى من هجمات طيران النظام ضد مدينة تدمر. وكل من العائلتين متوجهة نحو المدينة الأخرى بحثا عن الأمان المنشود.
وذكرت الصحيفة أن السكان القاطنين في المساحة الخاضعة لحكم تنظيم الدولة لم يعد بإمكانهم التحديد إن كان عليهم الاحتراس من الإعدامات الجماعية التي تقوم بها "جماعة الأعلام السوداء"، أو الطائرات التي تأتي لترمي حمولتها بصفة عشوائية، وهذا ما جعل التنظيم يشعر بأن أمامه فرصة لكسب ثقة السكان، وضمهم إلى صفه.
وقالت إن سكان مدينة تدمر، البالغ عددهم سبعين ألفا، مرّوا مباشرة من الحكم الاستبدادي لنظام بشار الأسد، إلى الخضوع لسيطرة تنظيم الدولة. وقد أظهر عناصر هذا التنظيم، على غير العادة، حكمة غير معهودة في تعاملهم مع السكان حتى الآن، فهم لو يقوموا فقط بالامتناع عن تخريب المناطق الأثرية، التي تعني الكثير للشعب السوري وللعالم، بل قاموا أيضا بتفجير سجن تدمر الذي يمثل رمزا للمعاناة والخوف بالنسبة للسوريين.
ونقلت في هذا السياق عن محمد طه، وهو مدير سابق للمواقع الأثرية في تدمر، أن التنظيم يسعى بكل تأكيد إلى طمأنة السكان وكسب ثقتهم. وحتى قيامه بإعدام العشرات من عناصر النظام السوري، من بينهم أربع نساء، تم نسيانه من قبل السكان بعد أن أحضر التنظيم تقنيين من الرقة لإصلاح شبكات الكهرباء وشبكة الإنترنت.
كما تمت دعوة طاقم المستشفى الوحيد الموجود في المدينة لمواصلة عمله، وتم منح العاملين مرتبات تبلغ 150 دولارا يتقاضونها بشكل مسبق، مع توفير معدات طبية تأتي من الرقة. وقد قام التنظيم أيضا بتأجيل عملية تطبيق الأحكام "الشرعية" التي تمنع تدخين السجائر، وتفرض ارتداء النقاب على النساء.
وقالت الصحيفة إن السكان شعروا ببعض الارتياح بعد هذه الخطوات التي اتخذها التنظيم، وقد انعكس ذلك على ردود فعل سكان المناطق التي دخلها التنظيم في الأيام الأخيرة، خاصة أنهم مستاؤون من قمع النظام وضعف أداء قوات النظام السوري، سواء في
العراق أو
سوريا.
وبحسب الصحيفة، فإن النظامين السوري والعراقي يتعمدان فسح المجال لتنظيم الدولة للتقدم، ليظهرا أنهما أخف الضررين.
وذكّرت في هذا السياق بصرخات شيخ عراقي فار من محافظة الأنبار، أمام عدسة كاميرا قناة البغدادية، قائلا: "لقد باعونا، لقد تم بيعنا! فجأة لم يعد هناك أي شخص تابع للسلطات، لا شرطة ولا مسؤولين من الحكومة. لقد فروا جميعا وتركونا نواجه مصيرنا، والجثث تملأ الشوارع".
كما نقلت الصحيفة عن صحفي متابع للشأن العراقي أن "الحكومة تدفع العراقيين دفعا نحو أحضان تنظيم الدولة. والسكان أصبحوا يتساءلون حول جدوى الهروب من المناطق الخاضعة للتنظيم، بينما بإمكانهم الاستجابة لنداءات أمرائه بالبقاء في منازلهم والالتزام بالتعليمات مقابل العيش في أمان".
وذكرت الصحيفة أنه في الرمادي، كما في باقي المناطق، بدأ عناصر تنظيم الدولة عملية بسط السيطرة بارتكاب نفس الفظاعات المعتادة، عبر إعدام كل من يتم اتهامهم بالخيانة. والسكان لايزالون يتذكرون الرعب الذي عاشوه في الصيف الماضي، عندما قام أتباع أبي بكر البغدادي، بعد دخول محافظتي الموصل وتكريت، بإعدام المئات من الجنود العراقيين والمدنيين الشيعة، بالإضافة إلى تهجير الآلاف من المسيحيين واليزيديين.
وقالت الصحيفة إن هذه الدموية تدخل ضمن استراتيجية التنظيم، الرامية إلى تطويع جميع السكان، والقضاء على أي تمرد أو معارضة محتملة، وعدم ترك أي خيار أمامهم غير الانصياع أو الرحيل. وبعد فترة من الزمن، يبدو أن الذين اختاروا البقاء والتأقلم مثل سكان الموصل في العراق والرقة في سوريا، يشعرون بأن أوضاعهم أفضل من الذين هربوا نحو مصير مجهول.
ففي هذه الأوقات التي أصبح فيها البقاء على قيد الحياة في حد ذاته إنجازا، أصبح الحكم الشمولي الذي يمارسه تنظيم الدولة مقبولا، باعتباره يتكفل على الأقل بضمان الحد الأدنى من متطلبات الحياة، من خلال تقديم الخدمات الصحية، والنظافة والأمن، وصرف الأجور، وتنظيم التجارة.
وأشارت الصحيفة إلى أن النساء في الموصل يتمتعن بحق قيادة السيارة، على عكس نظيراتهن في المملكة السعودية، لأن التنظيم يعتبر أن هذا يعود إلى عهد الرسول، عندما كانت النساء تركب الحصان والجمل.
أما في الرقة، فقد تم انتداب العشرات من "المدرسين التائبين"، الذين أعلنوا ولاءهم للتنظيم، ليتم إخضاعهم لتدريب خلال الصيف، حسب برامج وإيديولوجيا التنظيم، حتى يضطلعوا بمهمة التدريس مع بداية السنة الدراسية المقبلة.
وخلصت الصحيفة إلى أن الكثير من السكان في المناطق الخاضعة لسيطرة تنظيم الدولة، ينظرون إلى حضور هذا التنظيم أمرا واقعا، يجب التعامل معه حتى تستمر الحياة.
وفي ظل غياب أي بديل يحمي السكان من بطش النظام السوري والمليشيات الشيعية، يواصل هذا التنظيم كسب الثقة والهيبة، من خلال عمله على ضمان مستوى عيش مقبول للسكان الذين خضعوا لحكمه، وجمعه بين ثنائية الترهيب والترغيب، كما تقول الصحيفة.