مع استكمال
تنظيم الدولة الإسلامية سيطرته الكاملة على مدينتي
الرمادي في
العراق وتدمر في سوريا لا تزال نظرية المؤامرة أحد أهم المقاربات التفسيرية شيوعا وانتشارا في فهم التطورات الجيوسياسية في المنطقة، ففي ظل غياب قدرة تفسيرية علمية للظواهر الاجتماعية الإنسانية تستند إلى تفهم دوافع الفاعلين وفق مبدأ السبب الكافي ماديا ورمزيا، والاستقالة والاستسلام أما التحولات البنيوية العميقة الجارية في العالم العربي، ينسحب العقل التآمري مطمئنا رافضا الأسباب والشروط والظروف الموضوعية التي أدت إلى صعود تنظيم الدولة الإسلامية، متلبسا بخطاب نمطي تبريري يستند إلى مقولة المؤامرة لفهم وتفسير طبيعة ما يجري من تحولات بنائية دخلها العالم العربي منذ بدء فعاليات الربيع العربي.
يقوم خطاب المؤامرة على رؤية معرفية للإنسان والمجتمع العربيين، تتماهى مع الأطروحة الكولينيالية الاستشراقية التي تختزل الإنسان والثقافة والديانة الإسلامية بأنماط ثابتة وجوهرانية، تتسم بالركود والثبات، والعجز عن القدرة على التطور والتحول، والتلبس بإعادة إنتاج الذات، كما أن خطاب المؤامرة أحد أسلحة الأنظمة السياسية السلطوية المحلية في الحفاظ على الوضع القائم، إذ يغدو كل تغيير ثمرة لمؤامرة خارجية، وبهذا لن تسقط نظرية المؤامرة بسقوط الرمادي وتدمر إلا بتدمير ذهنية المؤامرة والدخول في أفق الفكر النقدي التحليلي الصارم في تفسير وتعليل كافة الظواهر الاجتماعية السياسية الكبرى، ولعل أحدها صعود تنظيم الدولة الإسلامية.
لقد كشفت عملية السيطرة على الرمادي وتدمر عن هشاشة القوات العسكرية العراقية والسورية، وعدم قدرتها على مواجهة قوات تنظيم الدولة الإسلامية التي تتمتع بفاعلية قتالية واضحة ورؤية استراتيجية ظاهرة وعقيدة جهادية صارمة، فقد انهارت قوات الجيش والشرطة والمليشيات المحلية المساندة في الرمادي وتدمر بصورة لافتة وانسحبت على وقع هجمات تنظيم الدولة تاركة خلفها خسائر بشرية كبيرة ومعدات عسكرية ضخمة، وبدلا من الإقرار بضعف القدرات القتالية للنظامين العراقي والسوري في كلا الجبهتين وافتقادها لعقيدة قتالية فعالة، ألقت اللوم على قصور التدخل الجوي لقوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، كما لو أن قوات الدولة الإسلامية تتمتع بغطاء جوي من "الملائكة والجن"، و"الطير الأبابيل".
إن سبب سقوط أو تحرير كل من الرمادي وتدمر هو ببساطة ضعف القوات العسكرية العراقية والسورية، وانهيار معنوياتها، وتفوق قوات تنظيم الدولة الإسلامية وامتلاكها استراتيجية واضحة وروح قتالية عالية وتكتيكات عسكرية مبتكرة، ولا يتعلق الأمر بالقدرات التسليحية، إذ تتفوق المؤسسات العسكرية العراقية والسورية في العدد والعدة، فعندما بدأ هجوم الدولة الإسلامية على الرمادي مركز محافظة الأنبار غرب العراق فجر الجمعة 15 أيار/ مايو 2015، استخدم عناصر الدولة قذائف الهاون والسيارات المفخخة لاستهداف القوات العراقية داخل المدينة، وقد تمكن التنظيم من بسط سيطرته بالكامل على المدينة يوم الأحد 17 أيار/ مايو، بعد انهيار القوات العراقية ثم انسحابها من مواقعها على الرمادي، بالرغم من الغارات الجوية اليومية التي يشنها الائتلاف بقيادة الولايات المتحدة، الأمر الذي يعيد إلى الذاكرة سيناريو سقوط الموصل في حزيران/ يونيو 2014، وعلى الجبهة السورية تكرر سيناريو فشل قوات الأسد وتواصل نجاح تنظيم الدولة الإسلامية، ففي صورة مماثلة ومكررة بدأ التنظيم هجومه في اتجاه مدينة
تدمر في 13 أيار/ مايو 2015، وسط حالة من الإنهيار لقوات الأسد ثم الانسحاب، حيث تمكن التنظيم من السيطرة على مدينة تدمر بالكامل يوم الخميس 21 أيار/ مايو 2015، كما سيطر تنظيم "الدولة الإسلامية" في نفس الوقت على آخر معبر للنظام السوري مع العراق، وذلك بعد انسحاب قوات النظام السوري من معبر الوليد الواقع على الحدود السورية، المعروف باسم "معبر التنف".
لا يرغب سدنة نظرية المؤامرة الاعتراف بضعفهم وعجزهم، والإقرار بقوة تنظيم الدولة الإسلامية، إذ تكشف عملية السيطرة على الرمادي بعض مصادر قوة التنظيم، فغزوة "أبو مهند السويداوي"، هو الاسم الذي أطلقه التنظيم على عملية الاستيلاء على مدينة الرمادي، وهو أحدأبرز قيادات التنظيم من مواليد الرمادي عام 1965، وقد قُتل باشتباك مع الشرطة المحليّة في قرية الكرطان التابعة لجزيرة الخالدية على الضفّة اليسرى من نهرِ الفرات، في 20 كانون الثاني/ يناير 2014، وتعتبر سيرته نموذجا يفسر قوة التنظيم وصلابته.
ينتمي إسماعيل لطيف عبد الله السويداوي، الملقب بأبي مهند السويداوي، إلى عشيرة البوسودة، إحدى عشائر التحالف القبلي المعروف باسم قبيلة الدليم، ويعرف بأسماء عديدة كحجي داوود، وأبو عبد السلام الدليمي، وكان من أوائل الجهاديين اللذين قاوموا الاحتلال الأمريكي للعراق، وقد شكّل مجموعة صغيرة نفذّت عدّةَ عمليات ضد القوات الأجنبية، ولم يكن أبو مهند السويداوي يحمل توجها فكريا إسلاميا معينا، إنما كان ملتزما بأداء الصلوات وغيرها من العبادات طيلة فترة خدمته كضابط في الجيش العراقي السابق، وقد التحق في وقت مبكر بصفوف تنظيم القاعدة في العراق، وبَرَزَ كقائد عسكري ذي خبرة ودراية وكفاءة عالية أهلته لقيادة كتيبة الكمائن الخارجية في معركة الفلوجة الأولى، بتكليف مباشر من أبي مصعب الزرقاوي، الذي كلفه بعدها مباشرة بمهمة مسؤول الارتباط مع مقاتلي التنظيم في محافظة الأنبار"، وبعد الإعلان عن تأسيس "دولة العراق الإسلامية" 2006 تولى السويداوي منصب الأمير العسكري لولاية الأنبار، ثم الإشراف على العمل الأمني فيها حتى مقتل وإلي الأنبار وعضو مجلس الشورى المهندس نعمان الزيدي، في 14 شباط/ فبراير 2011، حينئذ تم اختياره عضوا في مجلس الشورى وواليا على الأنبار، حيث حمل اسم أبو مهند السويداوي لأول مرة، وقد كان على صلة وثيقة مع قائد المجلس العسكري لتنظيم الدولة الإسلامية عدنان إسماعيل نجم، الملقب بأبي عبد الرحمن البيلاوي، الذي قتل في 4 حزيران/ يونيو 2014، والذي أطلق التنظيم على معركة الموصل إسم غزوة أبي عبد الرحمن البيلاوي، وكلاهما قتل بذات الطريقة فعندما تم محاصرتهما عقب اشتباكات طويلة فجر كلالهما نفسه بحزام ناسف.
تلك هي تكتيكات تنظيم الدولة الإسلامية المرعبة وطبيعة تكوين قواتها أفرادا وقادة، تبدأ بالتخطيط والاشتباك وتنتهي يالعمليات الانتحارية/ الاستشهادية، فهي تعنمد على نمط من الحروب الهجينة المركبة من الحروب الكلاسيكية الحديثة وتكتيكات حرب العصابات، ونموذج الحروب الجديدة المستندة للتطهير المكاني، وكما هي العادة هجمات منسقة مسندة بقذائف الهاون والصواريخ، واقتحامات عنيفة ف عبوات ناسفة، ثم مفخخات متنوعة، فاستشهاديين ثم انغماسيين وعمليات تطهير وتأمين، ثم سيطرة وتمشيط وحكم.
في المقابل تنتظر القوات العراقية والسورية المنهارة تدخلا أمريكيا جويا وبريا، وتعرب عن عجزها وفشلها الذاتي وقصور استرايجيتها في الحفاظ على مناطق سيطرتها، وهي تبحث عن أسلحة نوعية ومعدات عسكرية فتاكة، وتتذرع دوما بغياب استراتيجية أمريكية للقضاء على التنظيم، وهو أمر صحيح فقد صرح وزير الدفاع الأميركي السابق روبرت غيتس في وقت سابق لقناة "إم إس إن بي سي" بأنه "لم تكن لدينا إستراتيجية فعلية على الإطلاق، نحن نقوم بهذه المهمة كل يوم بيومه"، ولكن سدنة نظرية المؤامرة يرغبون بتضليل الرأي العام بالتنصل من عجزهم وفشلهم، فقد سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على معدات عسكرية أمريكية متطورة منذ سقوط الموصل تصل قيمتها إلى أكثر من (28) مليار دولار، بل يتندر أنصار التنظيم على سعي رئيس الوزراء العراقي بالحصول على أسلحة روسية بالقول: "نأمل أن تكون الأسلحة الروسية جيدة وفعالة لأننا سوف نغنمها ونفتح بها مدن أخرى".
خلاصة القول أن سقوط الرمادي وتدمر كشف عن ضعف وعجز القوات العراقية والسورية، وغياب استراتيجية أمريكية فعالة، في مواجهة قوات تنظيم الدولة الإسلامية التي برهنت على قوتها وفعاليتها القتالية، كما برهنت على أن تنظيم الدولة الإسلامية يتوافر على تخطيط استراتيجي مركزي يهدف إلى تأمين السيطرة المكانية على مساحات واسعة في العراق وسوريا وخلق فضاء جيوسياسي جديد من حلب إلى الموصل، وعلى أنصار نظرية المؤامرة الكف عن البحث عن أسباب انهيار الجيوش البائسة أمام قوات تنظيم الدولة الإسلامية، ومباشرة النظر في الأسباب والشروط والظروف الموضوعية التي تقف خلف بروز وصعود تنظيم الدولة الإسلامية، والخروج من عوالم العطالة الفكرية وحجب المؤامرة التي تعزز من قيم العجز والفشل كمنتجات رائجة لسحرة الدكتاتورية الرثة.