مع اقتراب الذكرى الأولى لسيطرة
تنظيم الدولة الإسلامية على الموصل في 10 حزيران/ يونيو 2014، وصمود التنظيم في وجه قوات
التحالف الدولي الذي تشكل في أيلول/ سبتمبر من نفس العام، بعد أن تدخلت الولايات المتحدة عبر ضربات جوية بشكل منفرد في
العراق منذ آب/ أغسطس 2014 للحد من تقدم التنظيم، ثم توسيع نطاقها لتشمل سوريا في أيلول/ سبتمبر، لا يزال تنظيم الدولة يحتفظ بسيطرته المكانية على مساحات واسعة في العراق وسوريا ويتمدد إلى بلدان عديدة ويؤسس ولايات متعددة، وبهذا فإن شعار التنظيم "باقية وتتمدد" لا يزال صالحا ويتمتع بالمصداقية، لكن صمود التنظيم يفرض واقعا جيوسياسيا جديدا، يستند إلى مصداق تحقق دولة "الأمر الواقع".
لقد برهن تنظيم الدولة الإسلامية منذ تأسيسه على صلابة بنائه الهيكلي ومتانة تكوينه التنظيمي، فقد عمل مبكرا على تطوير مؤسسات بيروقراطية صارمة، وأجهزة سياسية عسكرية مترابطة، فهو يعمل كمنظمة مركزية ذات إيديولوجية دينية شمولية تهدف إلى السيطرة والتوسع، ويقدم التنظيم نفسه هوياتيا كممثل لإسلام سني ممتهن يتعرض لخطر التمدد الشيعي في المنطقة، كما يقدم نفسه مناضلا ضد الإمبريالية والدكتاتورية.
يبدو أن ثقة المجتمع الدولي بالقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية في المدى المنظور محاطة بالشك والريبة، إلا أن المنظور الإقليمي أكثر تشككا بتوافر الولايات المتحدة الأمريكية على استراتيجية فعالة للقضاء على تنظيم الدولة الإسلامية، فلا تزال الاستراتيجية الأمريكية تستند إلى تكثيف الضربات الجوية، وتقديم مساعدات عسكرية للحلفاء المحليين على الأرض في العراق وخصوصا القوات الحكومية من الجيش والشرطة ومليشيات الحشد الشيعي، واستدخال العشائر السنية العراقية، وقوات البيشمركة الكردية، وفي سوريا تسعى المقاربة الأمريكية لتوسيع الائتلاف البري ليضم حركات وعشائر سنية سورية.
أحد التكتيكات البائسة للحكومة العراقية في البحث عن انتصارات وهمية على تنظيم الدولة الإسلامية كانت تستند إلى تكثيف حملة الشائعات حول مقتل أو إصابة زعيم التنظيم
أبو بكر البغدادي لأحداث نوع من الاضطراب والشك والخلل في صفوف التنظيم، ولم تقتصر الشائعات على منصب الخليفة لكنها طالت كافة أركان القيادة، حيث بدأت حملة واسعة في 20 نيسان/ إبريل 2015، بمساندة إعلامية دولية تفيد بمقتل البغدادي بغارة جوية للتحالف في 18 آذار/ مارس 2015، لكن البغدادي ظهر في كلمة صوتية نشرتها مؤسسة الفرقان التابعة للدولة الإسلامية، في 14 أيار/ مايو 2015 بعنوان "انفروا خفافاً وثقالاً".
في سياق الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية كشفت الولايات المتحدة عن مقتل القيادي في تنظيم "الدولة الإسلامية" "أبو سياف"، في اليوم التالي لكلمة البغدادي، حيث قُتل في عملية نفذتها وحدة من القوات الخاصة في عمق الأراضي السورية، وقد تم الاحتفاء بالإنجاز من أطراف عديدة وسط حالة من التخبط، فالأجهزة الأمنية العراقية قالت بأن العملية استهدفت نبيل الصديق أبو صالح الجبوري الملقب بـ "أبو سيّاف الأمريكي"، أما الأجهزة السورية فقالت أن المستهدف كان أبو تيم السعودي، لكن الجميع جزم بأن المستهدف كان مسؤول ملف النفط والغاز في تنظيم الدولة الإسلامية، لكن الإدارة الإمريكية قالت أن المستهدف كان يحمل الجنسية التونسية.
العملية الخاصة الأمريكية التي جرى تنفيذها في حقل العمر النفطي بالقرب من مدينة "دير الزور"، شرقي سوريا، أسفرت عن مقتل 10 على الأقل من مسلحي التنظيم، وقد وصف وزير الدفاع الأمريكي، أشتون كارتر، مقتل "أبو سياف"، بأنها "صفعة قوية للتنظيم الإرهابي"، لافتاً إلى أنه أمر بتنفيذ العملية، بناءً على تعليمات من الرئيس باراك أوباما، لكن العملية لم تكن ناجحة تماما فالهدف الأساس كان اعتقال أبو سياف لمحاولة فك رموز هيكلية التنظيم، ومعرفة المزيد حول قياداته، الأمر الذي أسفر عن اعتقال زوجته ثم نقلها إلى العراق، علها تملك معلومات تساعد في فهم لغز التنظيم، لكن الأهم في تفهم طبيعة العملية المعقدة هو أنها كشفت عن افتقار الأجهزة الاستخبارية الأمريكية فضلا عن نظيرتها العراقية والإقليمية لمعلومات دقيقة عن قيادات تنظيم الدولة الإسلامية وأماكن تواجدهم، إذ كان يكفي استخدام طائرات بدون طيار للتخلص من أبو سياف التونسي دون الحاجة للمخاطرة والمغامرة، كما كشفت العملية عن تعاون استخباري أمريكي غير مباشر مع النظام السوري الذي أعلن عن العملية قبل إعلان الولايات المتحدة وذلك عن طريق الحكومة العراقية عبر غرفة العمليات المشتركة في بغداد.
لا شك أن خطاب البغدادي الجديد كان له وقع الصدمة فبعد خطابه في 14 تشرين ثاني/ نوفمير حدثت تطورات عديدة، لكن كلمة البغدادي بدت أكثر ثقة من خطابه السابق وظهر واثقا من تحقق "دولة الأمر الواقع"، فهو يقدم تفسيرا لمعنى الإسلام والدولة يقوم على مبدأ القوة، إذ يقول: "ما كان الإسلام يوماً دين السلام، إن الإسلام دين القتال، وقد بُعِث نبيكم صلى الله عليه وسلم بالسيف رحمة للعالمين، وأُمِر بالقتال حتى يُعبد الله وحده"، وعقب تقديم قراءة تاريحية للإسلام تقوم على الجهاد والقتال، قدم تصورا معاصرا للعلاقة مع الغرب تقوم على الصراع فبحسب البغدادي: "وإن كان الصليبيون اليوم يزعمون اجتناب عامة المسلمين والإقتصار على استهداف المسلحين منهم فعما قريب سترونهم يستهدفون كل مسلم في كل مكان"، لكن البغدادي يبقى أمينا لنهج التنظيم منذ مؤسسه الزرقاوي بالتركيز على العدو القريب ممثلا بالأنظمة العربية والإسلامية باعتبارها خارجة عن معنى الإسلام فهو يقول: "إن الحكام الطواغيت الذين يحكمون بلادكم في الحرمين واليمن والشام والعراق ومصر والمغرب، وخراسان والقوقاز والهند وأفريقيا وفي كل مكان؛ إنما هم حلفاء لليهود والصليبيين بل عبيد لهم وخدم وكلاب حراسة ليس إلا، وما الجيوش التي يُعِدّونها ويسلّحونها ويدربها اليهود والصليبيون إلا لقمعكم وإستضعافكم وإستعبادكم لليهود والصليبيين، وردكم عن دينكم، وصدكم عن سبيل الله، ونهب خيرات بلادكم، وسلب أموالكم"، وإذ كان تنظيم القاعدة بنى استراتيجيته على أولوية قتال العدو البعيد وخصوصا أمريكا، فإن البغدادي يصر على العدو القريب وخصوصا السعودية، التي أفرد لها مساحة كبيرة من النقد والهجوم، فقد وصف البغدادي عاصفة الحزم التي تقودها السعودية في اليمن بعاصفة "الوهم"، وعلل أسبابها بقوله: "فلما شعر آل سلول بتخلي أسيادهم عنهم، ورميهم كالأحذية البالية، واستبدالهم، شنوا حربهم المزعومة على الروافض في اليمن، و ما هي بعاصمة حزم، وإنما هي بإذن الله رفصة قبل الموت من منازع بأنفاسه الأخيرة".
لا جدال أن البغدادي يسعى جاهدا لنزع الشرعية الدينية عن الحكم السعودي، فهو يقدم "الدولة الإسلامية" كبديل سني يستحق المتابعة والولاء والطاعة، إذ يقدم تشكيكا متواترا ونقدا قاسيا في مشروعية الحكم السعودي فهو يقول: "أين طائرات حكام الجزيرة من اليهود الذين يدنسون مسرى رسولنا صلى الله عليه وسلم، ويسومون أهل فلسطين من المسلمين كل يوم سوء العذاب؟ أين نصرة آل سلول وحلفائهم لمليون مسلم مستضعف يبادون في بورما عن بكرة أبيهم؟ أين نخوتهم حيال براميل النصيرية ومدافعهم التي تدك رؤوس المسلمين على رؤوس أهلها من النساء والولدان والمستضعفين في حلب وإدلب وحماة وحمص ودمشق وغيرها؟"، ويتابع هجومه بالقول: "أين غيرة حكام الجزيرة من الحرائر اللواتي يغتصبن كل يوم في الشام والعراق وشتى بقاع المسلمين؟ أين نجدة حكام مكة والمدينة للمسلمين في الصين والهند الذين يفعل بهم الهندوس الأفاعيل كل يوم من قتل وحرق واغتصاب وتقطيع أوصال وسلب ونهب وسجن؟ أين نجدتهم لهم في إندونيسيا والقوقاز وأفريقيا وخراسان وفي كل مكان؟ لقد فضح حكام الجزيرة وانكشفت سوءتهم، وفقدوا شرعيتهم المزعومة، واتضحت خيانتهم حتى عند عوام المسلمين، وظهروا على حقيقتهم، فانتهت صلاحيتهم عند أسيادهم من اليهود والصليبيين، وبدأوا باستبدالهم من الروافض الصفويين، وملاحدة الأكراد".
خلاصة القول أن البغدادي تمكن من تأسيس دولة الأمر الواقع، فالدولة الإسلامية باتت حقيقة ماثلة للعيان، ومع صمودها وتوسعها في ظل غياب استراتيجية دولية فعالة قادرة على القضاء على التنظيم، فإن دولة الأمر الواقع تعزز شرعيتها الدينية وسط تآكل شرعيات تقليدية بدت عاجزة عن تحقيق انجازات ملموسة، ولعل تركيز البغدادي على السعودية وعملية عاصفة الحزم للحد من النفوذ الإيراني يشكل قلقا للبغدادي ويخشى من نجاحه في استعادة الثقة السنية بالسعودية، فقد بنى تنظيم الدولة الإسلامية مجده على سردية الأزمة السنية واحتكار التمثيل الهوياتي للإسلام السني الذي يتعرض للإمتهان والإذلال، وفي ظل غياب تصور شمولي لأزمات المنطقة العميقة؛ وفي مقدمتها الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وتنامي صراع الهويات الطائفية، وديمومة الأنظمة الدكتاتورية، فإن الدولة الإسلامية باقية وتتمدد بفضل الغطرسة الإمبريالية.