دفع إغلاق المعابر الرسمية على
الحدودية السورية التركية في وجه السوريين من أشهر، بالعديد من العائلات السورية إلى الغوص في بحيرات الوحل لعبور الحدود بطريقة غير نظامية، كما يقول سوريون تحدثت إليهم "عربي21".
يعبر براء الحلبي، الذي غادر منذ أيام قليلة الأراضي السورية، عن مفاجأته بأن جواز سفره لم يعد ذا قيمة، وأن عليه العبور كالمئات ممن معه عبر الأسلاك الشائكة والخندق وصولا إلى مدينة كيليس التركية الحدودية.
آية، شابة لم تتجاوز العشرين من العمر، لا تفارقها الابتسامة، تصعد على ظهر محراثٍ زراعي يقوم بنقلها مع أكثر من عشرين آخرين عبر الأراضي الزراعية قريبا من الأسلاك الشائكة على الحدود. فهذه الشابة قادمة من مدينة الرقة القابعة تحت سيطرة تنظيم الدولة، حيث وصلت إلى مناطق سيطرة الثوار في شمال حلب، لتنطلق إلى الحدود التركية السورية بالقرب من مدينة اعزاز.
وتعتقد آية بأن كل ما يحصل الآن من انتظار والتمرّغ بالوحل، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، بالإضافة إلى الضرب بالحجارة من قبل الجنود الأتراك لإبعاد من يريد العبور.. كل ذلك مزاح لطيف بالمقارنة مع حادثه حصلت معها عندما رفعت جزءا من خمارها لمشاهدة بضاعة كانت معروضة على واجهة إحدى المحلات التجارية في الرقة، ليهجم عليها كالنمر أحد الملتحين من عناصر تنظيم الدولة بخيزرانته الطويلة ويبرحها ضربا لم تهدأ آلامه إلى اليوم.
بعد الوصول إلى قرية "حوار كيليس" الحدودية من الطرف السوري شمال مدينة اعزاز، والصعود إلى المحراث القديم أو "التريلّا باللهجة المحليّة"، ينزل الجميع منها متجهين مشيا على الأقدام إلى منطقة الأسلاك الشائكة التي تبعد من 1 إلى 2 كم، وعلى هذه العائلات، بمن فيها من أطفال ونساء وشيوخ، حمل حقائب نزوحهم والعبور للوصول إلى الأسلاك الفاصلة، والمشي في بركة من المياه أحدثتها الأمطار مؤخرا ويصل عمقها إلى 30 سم. ليس هذا فحسب، بل عليهم اجتياز خندق بعمق ثلاثة أمتار قد امتلأ بمتر من المياه الطينية والموحلة، لتبدأ الرحلة بالقفز من
سوريا إلى الخندق فيمد المهرب التركي الحبل المتسخ الخشن إليك صاعدا به إلى الحضن التركي.
وبعد مرور أربعة أو خمسة أشخاص بينهم امرأة، سقطت امرأة على ظهرها وابتلعت وحلاً بما يكفيها لعدم التفكير بالعودة إلى بلادها لعشرات السنين، حينها انتبه إليهم عنصر الجندرما التركي البعيد ووركض مهددا بإطلاق النار، فتراجع الجميع بالنزول إلى المياه من الطرف السوري، ومن ثمّ تراجع المهربون الأتراك بالمقابل، ليأمر المهرب السوري الأشخاص الذين يحاول تهريبهم بالتراجع فهناك ضابط تركي قادم وهو لا يسمح لأحد بالمرور.
كان معهم عجوز من ادلب، ويرتدي لباسا شعبيا، وقف العجوز ضاحكا في وجه الشرطي الذي يهدده ببارودته، ويفصل بينهما الخندق وبعض الأسلاك الشائكة. يصرخ الشرطي بعربيته الثقيلة: "ارجع.. ارجع"، فيجيبه العجوز: "مالي راجع وحياة ربك، أنا مو محبةً فيكم، بس خايف أموت تحت سقف بيتي بقذيفة طيارة روسية صاحبها سوري شوفيرها سكران، اضربني ما عاد في بالعمر خسة"، مشيرا إلى الخسة التي يأكلها بيده، ليضحك الجميع ويضطر الجندرما التركي للضحك وطلب منه الرجوع بلطف.
لم يشاهد براء الحلبي الفتاة الرقاوية "آية" عندما عبرت، و يعتقد بأنها اجتازت بعده فهي وأهلها أيضا نشطيون جدا، ومتفائلون بالذهاب إلى أقاربهم في السعودية، بعد أكثر من ساعة من المحاولات.
ويقول براء: "استطعت العبور، مع أربعة من الشباب، ولكن عندما كنت أحاول اجتياز الحدود سمعت صيحات وصراخا لفّ المكان بشكل مرعب، العديد من الأصوات البعيدة تبكي وتصرخ.. رجال ونساء وأطفال. المهرب التركي كان يركض أمامنا ويكرّر لاهثا: "لا تنظروا إلى الخلف.. اركضوا اركضو".
ويتابع براء حديثه لـ "عربي21" قائلا: "وصلت أنا وصديقي إلى حافلة صغيرة استطعنا فيها التقاط أنفاسنا بعد جري متواصل لأكثر من خمسة عشر دقيقة. أخبرنا المهرب التركي بأننا الناجون الأربعة، بينما علق الباقون خلفنا لليوم التالي. ومساء اليوم ذاته عرفنا بأن الصراخ المرعب بالقرب من التيل (الأسلاك) كان بسبب إصابة امرأة بطلقة طائشة من بارودة تركية، قام بعدها العناصر الأتراك بنقلها إلى المشفى لتضاف قصتها إلى قصص آلاف السوريين العابرين من موت إلى موت.. عن طريق الموت".