يقول الكاتب والمؤرخ الإنجليزي "لورد أكتون": "إن التاريخ ليس عبئا على الذاكرة، ولكنه إضاءة لها". لذلك فإن فوضى الأحداث تجعلني أتساءل: هل يمكن أن يكون السبب الرئيس في إخفاق الحركات الإسلامية في مناطق مختلفة من العالم الإسلامي هو تلك القراءة الرومانتيكية والانتقائية للتاريخ الإسلامي؟ وهل نستطيع أن نزعم أن
الإسلاميين لم يكونوا ضحايا الاستبداد، بقدر ما كانوا ضحايا أنفسهم حين اخترعوا مناهجهم الخاصة في قراءة التاريخ، وصاغوا بناء فكريا (وجدانيا وعاطفيا) في التعامل مع واقعهم الافتراضي لا الحقيقي؟ إنه ذلك الواقع القائم على (الاستسهال النصي) من خلال الإحالات التاريخية المقولبة والنصوص الشرعية لوقائع وأحداث أخرى مغايرة لواقعنا المتشابك، والذي يحتاج إلى أن نتعامل معه بطريقة تحليلية، لنبحث عن النص الذي يلائمه، وذلك بخلاف طريقة الحركات الإسلامية التي تهرول إلى النص لتستخرج منه الواقع! ولذلك كانت تلك النتائج الكارثية والطبيعية التي تحدث دائما عندما لا نفرق بين (واقع النص)، (ونص الواقع).
لم يتعامل منظرو الحركات الإسلامية إذن مع الواقع باعتبار أنه (نص آخر) في حاجة إلى قراءة متأنية ودقيقة، بل باعتبار أنه حالة طارئة واستثنائية سوف تتغير بطريقة آلية من خلال رفع شعارات إسلامية جذابة تخاطب عاطفة الجماهير. ولذلك، لم يكن أمرا عجيبا انفضاض تلك الجماهير سريعا من حولهم، بل وانقضاضهم عليهم لأنهم لم ينالوا شيئا من وعودهم الرومانسية.
لقد انطلق المنظرون الإسلاميون من فكرة الخلافة الراشدة. فلم يروا في التاريخ الإسلامي غير تلك الحقبة شبه المثالية، والتي تعتبر استثناء ليس في تاريخ الإسلام فقط، بل ربما في تاريخ البشرية عموما، غاضين الطرف عن (تاريخ آخر) مليء بالصراعات والانقسامات والحروب، سواء من أجل الحفاظ على بنية وتماسك الدولة الإسلامية مترامية الأطراف، أم من أجل تحقيق زعامات قبلية وعرقية، وطمعا في الحضور السياسي، ولو بإقصاء وإبادة الآخرين.
لقد حدث ذلك بالفعل، وهو أمر طبيعي، لأن التاريخ منتج بشري قائم على الصراع بين الأفكار والأطماع والمصالح والأيدلوجيات. وهذا ما يحاول الإسلاميون أن يتجنبوا ذكره حفاظا على (قدسية)ذلك التاريخ، لكنه في حقيقة الأمر غير مقدس، لكنه مع ذلك، مقارنة بتاريخ الأمم الأخرى، يظل تاريخا مليئا بالإنجازات الكبرى على مستويات مختلفة اجتماعية وعلمية وحضارية. وعلى النقيض من ذلك، يقف الفريق الآخر من التيار العلماني، حيث لا يرى في التاريخ الإسلامي غير الصراعات الدموية والمذهبية والعرقية، وهو أمر طبيعي أيضا، ينبغي أن يوضع في سياقه البشري، ولا ينتقص من قيمته الحضارية.
وها هو تاريخنا الحديث والمعاصر الذي لم يختلف عن التاريخ القديم والوسيط في دمويته وتوحشه، إن لم يتجاوزه بمراحل، فلم تنجح الحداثة الغربية والتكنولوجيا الغربية في منح العالم شيئا من الإنسانية، بل على العكس من ذلك، ازداد العالم توحشا وهمجية، بخلاف ما يروج العلمانيون، وهم يتعاملون بالانتقائية ذاتها مع التاريخ الإسلامي والمعاصر. ومع ذلك، فهناك فارق مهم بين كلا الفريقين، وهو أن التاريخ الإسلامي الوسيط كان يتميز بوجود دور بارز ومستقل وقيادي للأمة الإسلامية في أحيان كثيرة، بخلاف تاريخنا الحديث الذي لا نملك فيه إلا أن نكون نحن ضحاياه.