احتفي في مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي بتوقيع اتفاقية غاز مع شركة البترول البريطانية (BP) اعتبرت نجاحا باهرا، وذلك رغم أن الاتفاقية إنما جاءت بعد عقدين من المقايضة خرج منها عملاق الطاقة البريطاني بمكاسب متزايدة وشروط محسنة دون أن تنتج الشركة أي غاز.
فبحسب الاتفاق ستحصل شركة البترول البريطانية مع شريكتها آر دبليو إي ديا على مائة بالمائة من أي أرباح تجنيها - بعد دفع الرسوم والضرائب – من امتيازات منحت لهما لاستخراج الغاز من حقلين
مصريين في البحر. يقول المحللون إن الشروط التي حصلت عليها الشركتان إنما تعكس حاجة مصر الماسة للغاز وحالة عدم الكفاءة التي يدار من خلالها هذا القطاع في مصر منذ سنوات طويلة.
وكان من جراء هذه المقايضة التي استمرت عشرين عاماً بين شركة البترول البريطانية والشركة المصرية المملوكة للدولة أن تكبدت البلاد خسائر لا تقل عن 32 مليار دولار كان من المفروض أن تجنيها، وذلك بحسب ما قاله أحد أعضاء مجموعة العمل التي تشتمل على موظفين من شركة البترول البريطانية ومن شركة
الغاز المصرية المملوكة للدولة بناء على تحليله لبيانات العقود السابقة.
بإمكان ميدل إيست آي أن تكشف النقاب عن أن الاتفاقية الأخيرة، والتي تستمر لثلاثين عاماً، تنص على أنه:
- سوف تستثمر شركة البترول البريطانية 12 مليار دولار لتطوير حقلين بحريين مصريين، أحدهما باسم "شمال الإسكندرية" والآخر باسم "غرب المتوسط في المياه العميقة".
- سوف تبيع شركة البترول البريطانية مائة بالمائة من الغاز بأسعار تتراوح ما بين 3 إلى 4 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية إلى شركة النفط العامة المصرية.
- سوف تبيع شركة البترول البريطانية 100 بالمائة من المكثف المكتشف إلى شركة النفط العامة المصرية.
- سوف لن تدفع شركة النفط البريطانية سوى الرسوم وضريبة الدخل.
- سوف تمثل الاتفاقية تحولاً عن نموذج الشراكة في الإنتاج، والذي طالما استخدم من قبل مصر، والذي تتقاسم فيه الشركات والدول في العادة الأرباح بنسبة 20 إلى 80، إلى نمط الضريبة والرسوم، والذي يقول المحللون إنه يخصخص قطاع الغاز المصري ويسلم السيطرة وزمام أمور استغلال الموارد الطبيعية إلى الشركات الخاصة.
يقول حاتم عزام، العضو السابق في البرلمان المصري والذي كان أيضا أمينا عاما للجنة الصناعة والطاقة: "إن قرار منح ملكية احتياطيات النفط والغاز، وكذلك الموجودات المستثمرة، إلى شركة البترول البريطانية فجأة هكذا وبدون مقدمات لهو خطوة تتطلب بالتأكيد تحقيقاً معمقاً من قبل الشعب المصري، ممثلاً بالبرلمان الشرعي، وذلك لتقييم ما إذا كانت ثمة فوائد في ذلك، هذا إن وجدت أصلاً".
وحذر حاتم عزام، الذي يقول المسؤولون المصريون بأنه لا يرحب بعودته إلى البلاد بعد أن تكلم ضد انقلاب يوليو 2013، من أن الصفقة قد تصبح بلا قيمة إذا ما حصل تغيير آخر في الحكومة.
وأضاف: "لم يصبح ذلك تاريخا بعد، وإن جميع
الاتفاقيات التي يبرمها النظام بهذه الطريقة لا تلزم المصريين وسوف تعتبر لاغية حينما ينتهي الانقلاب العسكري".
يقول المحلل في مجال الطاقة ميكا مينيو بالويلو: "لو كنت مصريا لأرعبني بالتأكيد مدلول التحول من اتفاقيات الشراكة في الإنتاج. هناك فرق بين ما هو أفضل بالنسبة للدولة المصرية وما هو أفضل بالنسبة لشركة البترول البريطانية. وكلما زادت الصلاحيات الممنوحة لشركة البترول البريطانية في مجال اتخاذ القرارات، تضاءل نصيب المصلحة العامة في أن تكون ممثلة بحق".
وهناك من يقول إن ذلك هو ببساطة ثمن إبرام الصفقات التجارية.
يقول دافيد باتلر، محلل مختص في شؤون الشرق الأوسط وزميل في شاتام هاوس: "لو كان لدى مصر بديل آخر لذلك لما ترددوا في اللجوء إليه. الحقيقة التي لا مناص منها هو أن إنتاج الغاز سيكلف ما يتطلبه ذلك من تكاليف".
ودافعت شركة البترول البريطانية عن الصفقة أيضا، وقال متحدث باسم الشركة في تصريح لميدل إيست آي: "إن مشروع استثمار غرب دلتا النيل هو أكبر مشروع استثمار أجنبي في مصر، وهو يؤكد ثقتنا المستمرة بمصر والتزامنا بالعمل على إطلاق مكنونها من الطاقة".
اليد المفاوضة الضعيفة
تأتي الصفقة بينما تجد مصر نفسها في موقف تفاوضي ضعيف، فبدءًا من العام 2005، راكمت مصر ديونا عليها لشركات النفط والغاز وصلت إلى 7.5 مليار دولار بحسب أرقام حزيران (يونيو) الماضي، وقد تسنى خلال الشهور الأخيرة سداد نصفها تقريبا.
في هذه الأثناء، وبينما تباطأ إنتاج الغاز من قبل شركات تتردد في الاستثمار دون عائد واضح المعالم، تصاعد الاستهلاك وتحولت البلاد من مصدر إلى مستورد. وبحلول الصيف الماضي، وهو موسم يصل فيه استخدام الطاقة إلى الذروة، بات انقطاع التيار الكهربائي ممارسة يومية بالنسبة للمصريين، وصلت معدلات انقطاع التيار الكهربائي خلاله في بعض المناطق إلى ست انقطاعات في اليوم الواحد ولمدة قد تصل إلى ساعتين في كل واحدة منها.
وفي سبيل تجسير الهوة بين احتياجات مصر للغاز والكمية المتاحة محليا، سعت الدولة إلى استيراد الغاز الطبيعي المسال من التجار بسعر يتراوح تقريباً حول 10 دولارات لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، وهذا أكثر من ضعف الثمن الذي ستدفعه الدولة لشركة البترول البريطانية.
يقول طارق باقوني، الخبير في شؤون الطاقة، إن حالة مصر ناجمة عن "انعدام الكفاءة على مدى أعوام وأعوام كان قطاع النفط والغاز خلالها يدار بشكل سيء جدا".
وأضاف: "كانت مصر تزود كلاً من إسرائيل والأردن بالغاز، ثم تحولت فجأة بين ليلة وضحاها من دولة قادرة على فعل ذلك إلى دولة مستوردة للغاز. والسبب في ذلك هو الأسلوب الذي كان يدار من خلاله قطاع النفط على مدى سنين طويلة." إلا أن بعض المصادر من داخل قطاع صناعة النفط والغاز في مصر تزعم أن ضعف الموقف التفاوضي المصري ناجم عن أكثر من مجرد انعدام الكفاءة.
يقول حاتم عزام، النائب السابق وصاحب خبرة في قطاع النفط استمرت لعشرين عاما، إنه بدلاً من سداد الدين المستحق لشركات الطاقة متعددة الجنسيات في العشرية الأولى من الألفية الثالثة، أنفق المسؤولون المصريون المال على فرق كرة القدم وعلى الشركات الوهمية وعلى توظيف أقاربهم وأصدقائهم.
ويقول إن كثيرين ممن ينتسبون إلى نفس الشبكة من المسؤولين من عهد الرئيس السابق حسني مبارك أعيد تعيينهم في مواقع نافذة منذ انقلاب عام 2013 الذي أتى بالرئيس عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، وأن هذه التعيينات كانت ممهدة للاتفاقية التي أبرمت مع شركة البترول البريطانية.
وأضاف حاتم عزام، الذي يعيش في المنفى منذ أكثر من عام بعد أن صدح بمعارضة السيسي: "إنها عملية إعادة تدوير للفساد الذي كان موجوداً في عهد مبارك، ويقدم ذلك للعامة على أنه إنجاز".
ولدى توجيه سؤال عن تصريحات حاتم عزام بخصوص استشراء
الفساد في الأعوام العشرة التي سبقت الربيع العربي، قال متحدث باسم شركة البترول البريطانية إن الشركة لم تكن على دراية بهذه المزاعم. أما شركة النفط العامة المصرية فقد أكدت استلامها لأسئلة وجهتها إليها ميدل إيست آي ولكنها لم تجب عن أي من هذه الأسئلة.
يتحدث حاتم عزام الآن عن هذه القضية لأنه يشعر بأنه طالما لايزال الغاز في باطن الأرض فإنه يتوجب على مصر أن تحصل على شروط أفضل مقابل مواردها الطبيعية. وفي ذلك يقول: "قد لا يلوم المرء شركة البترول البريطانية، فهي كمؤسسة ستسعى باستمرار إلى تعزيز مكاسبها. ولكني ألوم المسؤولين المصريين الفاسدين الذين وضعوا مصر في موقف في غاية الضعف كما هو حاصل الآن، بحيث باتت مكشوفة وعرضة للاستغلال."
وأضاف: "نحن بحاجة إلى التأكيد بكل وضوح على أننا مازال لدينا فرصة لإعادة التفاوض على ذلك، بل سوف نسعى للقيام بكافة الإجراءات الضرورية من أجل ضمان ذلك".
"المشي بجانب الحائط"
يقول حاتم عزام إنه سمع، وعلى مدى سنوات طويلة، همسات من داخل قطاع الغاز والنفط بأن الاتفاقيات المبرمة بين شركة البترول البريطانية وشركة النفط العامة المصرية "لم تكن صحيحة".
وكان حاتم عزام قد انتخب عضواً في البرلمان بعد الإطاحة بمبارك في عام 2011. ويقول في ذلك: "لقد كان هدفي انطلاقاً من موقعي كأمين عام للجنة الصناعة والطاقة هو وضع خطة لمستقبل قطاع الطاقة".
ويقول حاتم عزام إن جزءا من هذا العمل تضمن إعادة النظر في كافة الصفقات القائمة والتي كان يشوبها الفساد. وكان الهدف هو البدء في إعادة التفاوض على شروط هذه الاتفاقيات لصالح البلد ولتأمين المزيد من مصادر الطاقة. وكجزء من هذه الخطة بدأ يتحدث داخل البرلمان ومن خلال البرامج التلفزيونية حول الصفقات المبرمة بين شركة البترول البريطانية وشركة النفط العامة المصرية.
ويقول: "لقد تعمدت القيام بذلك لأنني كنت أعلم حينما قمت به بأنني سأجد أشخاصا يعملون داخل شركة البترول البريطانية وداخل شركة النفط العامة المصرية ممن سيقولون إن هذا الشخص يساند الحقيقة ونحن بدورنا سنسانده".
وفعلاً بدأ بعض الموظفين في مختلف المجالات داخل شركة النفط العامة المصرية وفي شركات النفط العالمية، بما في ذلك بعض من يشغلون المناصب العليا فيها وممن لديهم خبرات قانونية وتعاقدية وجيولوجية، يتحدثون مع حاتم عزام، كما يقول. وتشكلت بناء على ذلك مجموعة عمل صغيرة، كانت تلتقي بشكل غير معلن لتعكف على دراسة وتحليل الصفقات بالتفصيل.
يقول حاتم عزام شارحاً ذلك: "لم يكونوا يعرف بعضهم بعضاً لأنهم لم يريدوا أن ينكشف أمرهم. لدينا ثقافة معينة، حيث نقول امشي بجانب الحيط، أي حافظ على سلامتك أو شيء من هذا القبيل. لا يريد أحد أن ينكشف أمره ويتعرض لتداعيات ذلك. ولكن، كان جيداً أنهم عندما رأوا شيئاً يحدث قرروا المشاركة".
بحلول عام 2012، وبعد دراسة معمقة للعقود المبرمة، وبعد إجراء حسبة بناء على المعادلات المذكورة في العقود، خلصت مجموعة العمل، كما يقول حاتم عزام، إلى أن المصريين خسروا ما لا يقل عن 32 مليار دولار بسبب الطريقة التي جرى من خلالها التفاوض على العقود منذ عام 1992.
صفقات على مدى عشرين عامًا ولكن بدون غاز
يعود تاريخ المسيرة التي انتهت بتوقيع اتفاقية غرب دلتا النيل إلى عام 1992. فقد وافقت شركة البترول البريطانية في ذلك العام على شراء 50 بالمائة من الرخصة الممنوحة للامتيازات الأولى، المعروفة باسم شمال الإسكندرية، من الشركة الإسبانية ريبسول، وآلت إليها شروط الاتفاقية التي جرى التفاوض عليها في تلك السنة بين ريبسول وشركة النفط العامة المصرية، والتي تنص على أنه بعد أن تستعيد الشركة تكاليف استثمارها ستحصل مصر على 80 بالمائة من الأرباح بينما تحصل شركة البترول البريطانية على عشرين بالمائة، حسبما يقوله حاتم عزام.
وتقضي الاتفاقية بأنه إذا ما فشلت شركة البترول البريطانية في إنتاج الغاز من حقل شمال الإسكندرية بحلول عام 2001، فستقوم شركة النفط العامة المصرية بإعادة طرح المناقصة الخاصة بالامتياز، وإعادة فتح العملية أمام المقاولين للتنافس، كما يقول حاتم عزام. وفيما لو تمكنت شركة البترول البريطانية من إنتاج الغاز من أجزاء معينة من المنطقة التي منح الامتياز بشأنها، فإن بإمكان الشركة الاحتفاظ بتلك الأجزاء بينما يعاد طرح الأجزاء الأخرى للمناقصة.
في عام 1999 فاز عرض شركة البترول البريطانية بالمناقصة الخاصة بحقل غرب المتوسط للمياه العميقة، وهو امتياز للتنقيب عن الغاز في البحر بمحاذاة حقل شمال الإسكندرية.
ثم بحلول عام 2001، عندما اشترت شركة البترول البريطانية الحصص المتبقية لشركة ريبسول في الامتياز، وكان 40 بالمائة منها قد اشترته شركة آر دبيلو إي ديا، والتي كانت في حينه شركة النفط والغاز التابعة للمؤسسة الألمانية آر دبليو إي إيه جي، لم يكن قد أنتج أي غاز بموجب هذا الامتياز، كما يقول حاتم عزام. وكان بإمكان شركة النفط العامة المصرية بموجب شروط العقد إعادة فتح المناقصة بحثاً عن صفقات بديلة.
ولكن الذي حصل، كما يقول حاتم عزام، هو أن شركة البترول البريطانية ظلت محتفظة بحقوق التنقيب في حقل شمال الإسكندرية بموافقة ضمنية من الحكومة المصرية، بل عمدت شركة النفط العامة المصرية في عام 2003 إلى منح كافة الامتيازات في المنطقة إلى شركة البترول البريطانية دون طرح الموضوع للمنافسة، وذلك في انتهاك صريح لاتفاقية عام 1992، وهو الأمر الذي يجعل أي تطوير إضافي للاتفاقية، كما يقول، "فاسد وباطل".
يقول المحلل مينيو بالويلو: "لا ينبغي أن تسمح لأي شركة بالهيمنة على حقل كهذا. بل من المتعارف عليه القول إنكم إذا لم تفعلوا كذا وكذا، فإننا سنسحب المشروع منكم. كما لا ينبغي أن يتجاوز الأمر عاماً أو عامين أو ثلاثة أعوام على الأكثر، وليس عشرة أعوام".
الشروط المتبدلة
في عام 2008، أعادت شركة البترول البريطانية وشركة آر دبليو إي ديا التفاوض على الشروط المتعلقة بامتيازات كل من شمال الإسكندرية وغرب المتوسط للمياه العميقة (حيث تملك شركة آر دبليو إي ديا 20 بالمائة من امتيازات غرب المتوسط).
يقول حاتم عزام إن شركة البترول البريطانية قالت في حينه إن تكاليف إنتاج الغاز من غرب المتوسط، وهو امتياز خاص بالمياه العميقة، قد أخذت بالارتفاع، الأمر الذي كان في حينه يشكل مصدر قلق في هذا القطاع الصناعي كما يقول المحللون.
إلا أن حاتم عزام يقول بأن للحقلين مواصفات جيولوجية مختلفة، الأمر الذي كان يتطلب مستويات مختلفة من الاستثمار من أجل الإنتاج، ومع ذلك فقد جرى إعادة التفاوض على العقدين بنفس الشروط تماماً. ويضيف بأن مصر كانت في الواقع تمنح شركة البترول البريطانية المزيد من الغاز بلا مقابل.
يقول ميكا: "تعمل مصر من خلال نظام الشروط فيه تنطبق على أوضاع ترخيص محلية. ولهذا فإن التعامل مع شروط متطابقة تماماً يثير بعض التساؤلات".
بموجب شروط عام 2008، فإن شركة البترول البريطانية وشركة آر دبليو إي ديا كانتا ستحصلان على 40 بالمائة من الأرباح وتحصل شركة النفط العامة المصرية على 60 بالمائة. وكانت مصر ستدفع في تلك الحالة ما بين 4 و 5ر4 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية بدلاً من مبلغ 65ر2 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية الذي نص عليه في الاتفاقية التي أبرمت في عام 1992.
يقول حاتم عزام: "لم تكن مصر ملزمة بقبول ذلك، ولكنها مع ذلك قبلت به".
أما باتر، المحلل الخبير بشؤون الطاقة في الشرق الأوسط والزميل المشارك في شتام هاوس فيقول إن مصر كانت في ذلك الوقت قد حملت بالديون المستحقة للشركات، ولذلك فلم يكن هناك ما يغري شركة البترول البريطانية أو غيرها من شركات الغاز بالاستثمار في مصر دون الحصول على شروط أفضل.
ويقول باتر: "وصلت الديون في عام 2008 إلى عدة مليارات من الدولارات، وكان سجل الدفعات المصرية سيئاً، وظل المصريون يبحثون عن مزيد من القروض من شركات النفط لتأخير الدفع. من الواضح أن مثل ذلك الوضع لم يكن ليغري شركة البترول البريطانية بالدخول في المشروع".
أحد الأسباب التي تفسر تراكم الديون على مصر هو ارتفاع تكلفة دعم الطاقة للمستهلكين داخل البلد، ومثل هذا الاختلال كما يقول باقوني يعني أن الحكومة كانت تضمن تكاليف شركات توليد الطاقة، وعليه فقد كانت كيانات مثل شركة النفط العامة المصرية دوماً في وضع مالي متزعزع.
إلا أن حاتم عزام يزعم أن ديون مصر بدأت في التراكم في العشرية الأولى من الألفية الجديدة لأن المسؤولين المصريين كانوا يستخدمون المال الذي كان ينبغي أن يدفع للشركات مثل شركة البترول البريطانية للإنفاق على نشاطات تدعم مواقعهم السياسية.
ويقول حاتم عزام إن المال كان يستخدم لشراء ولاءات كبار المسؤولين في أجهزة الرقابة المالية والنقدية في مصر – بما في ذلك كبار الضباط والمسؤولين السابقين في الجيش – الذين أشاحوا بوجوههم وغضوا أبصارهم عن صفقات النفط الفاسدة.
في هذه الأثناء يقول حاتم عزام إن وزير النفط سامح فهمي كان قد أخبر البرلمان – الذي يجب أن يوافق على جميع اتفاقيات الغاز – إن شركة البترول البريطانية قدمت له تقريراً أعدته مؤسسة استشارية دولية في مجال الإدارة اسمها ماكنزي وشركاه يبين أن معدل عوائد شركة البترول البريطانية يمكن أن يرتفع بموجب عقد يعاد التفاوض على شروطه، وأنه ما لم يحدث ذلك فستكون الشركة مترددة في الاستثمار.
ويقول حاتم عزام: "ماذا كانت حجته للمطالبة بتغيير الاتفاقية؟ أن شركة البترول البريطانية لن تستثمر وأنها سوف تخسر".
ويتساءل: "لماذا ينبغي على المصريين أن يقلقوا بشأن معدل العوائد الداخلي لشركة البترول البريطانية ولماذا ينبغي أن تظل البلاد تحت رحمة شروط شركة البترول البريطانية إذا ما كان من حق شركة النفط العامة المصرية إعادة طرح المناقصة من جديد؟".
ويضيف: "هذه أسئلة مشروعة لا يوجد لها سوى جواب واحد. كان ذلك ضد مصلحة ثروة البلد والأجيال القادمة".
الشروط تتبدل من جديد
في عام 2010، وبعد شهرين فقط من انفجار منصة تنقيب تملكها شركة البترول البريطانية في خليج المكسيك، الأمر الذي أدى إلى "ديب ووتر هورايزون" – أضخم تسرب نفطي بحري حتى تاريخه، أعادت شركة البترول البريطانية التفاوض على الشروط الخاصة بامتيازات التنقيب في الحقلين تارة أخرى، وأعلنت أنها مع شركتها آر دبليو إي ديا ستستثمران 9 مليارات دولار.
سلكت اتفاقية عام 2010 نفس نموذج اتفاقية الشراكة الإنتاجية الذي انتهجته الصفقات السابقة، والذي ينص على أن الشركات تستثمر مقدماً ثم تستعيد تكاليفها من خلال بيع منتجات النفط.
ولكن، وبدلاً من اقتسام الأرباح مع شركة النفط العامة المصرية كما كان عليه الحال في العقود السابقة، تقرر فيما يبدو أن تحصل كل من شركة البترول البريطانية وشركة آر دبليو إي ديا – بموجب العقد الجديد – على 100 بالمائة من الأرباح بعد أن تستعيدا تكاليف الاستثمار، وهو أمر يجزم المحللون بأنه لم يحصل من قبل ولم يسمع به في مثل هذا النوع من الاتفاقيات داخل القطاع النفطي.
يقول مينيو بالويلو: "لم أسمع من قبل بعقد تحصل بموجبه الشركة على 100 بالمائة من الأرباح".
ويقول باقوني: "يمكنني القول إن حصول شركة على 100 بالمائة من الأرباح بموجب عقد ينتهج نموذج الشراكة الإنتاجية هو أمر شاذ جداً".
يؤكد باقوني، الذي كلفه موقع ميدل إيست آي بمراجعة العقود المبرمة عام 2010 بين شركة البترول البريطانية وشركة النفط العامة المصرية بخصوص حقلي شمال الإسكندرية وغرب المتوسط للمياه العميقة، ما خلص إليه حاتم عزام ومجموعة العمل من أن العقود – والتي يعتقد بأنها كانت الأحدث إلى أن جرى التوقيع على الصفقة في الشهر الماضي – قد تركت أسئلة تبحث عن إجابات بشأن الأرباح التي من المفروض أن تحصل عليها مصر.
يقول باقوني إن العقود لا تنص على الطريقة التي سيتم من خلالها تقاسم الأرباح بين الشركة ومصر بعد أن تستعيد الشركة تكاليف استثمارها في إنتاج المشتقات النفطية من الحقلين.
ويضيف: "بعد بيع كمية قليلة من مشتقات النفط إلى شركة النفط العامة المصرية، تكون مصر بشكل أساسي قد منحت شركة البترول البريطانية ما يشبه البطاقة البيضاء فيما يتعلق بأي احتياطيات إضافية أو متزايدة. ويمكن أن يفهم من الطبيعة المبهمة للعقد أنه يمكن فعلياً أن يشكل تنازلاً لا يكاد يصدق".
يذكر أن شركة البترول البريطانية ووزير النفط سامح فهمي كلاهما صرحا لوسائل الإعلام في ذلك الوقت، بأن التبديل الحاصل في الشروط كان ثمناً لا مفر منه من أجل المضي قدماً في المشروع.
فقد صرح حينها الناطق باسم شركة البترول البريطانية روبرت واين للصحفيين قائلاً: "لم يكن المشروع ذا جدوى تجارية بالنسبة لنا. أما الآن فإن لدى الحكومة صفقة تراها مقبولة". أما سامح فهمي فقال إنه كان صعباً تطوير حقول بحرية في المياه العميقة مشيراً إلى أنه بدون مثل هذه الشروط، فإن الشركاء الأجانب سيعزفون عن إنتاج الغاز في البلاد. وقال إن العقد يمنح "فوائد عظيمة" لمصر.
ولكن حاتم عزام يقول إنه بسبب ديون مصر المتصاعدة لصالح شركة البترول البريطانية، وفي ظل استمرار المسؤولين في إنفاق أموال الوزارة على النشاطات الفاسدة، فإنه سيكون من الصعوبة بمكان على شركة النفط العامة المصرية أن تتحلل من الصفقة أياً كانت شروطها.
الغاز وقود الانتفاضات
بعد أقل من عام على ذلك ساهمت صفقات الغاز الاشكالية لسامح فهمي في تفجير الانتفاضات التي أطاحت بمبارك بعد ثلاثين عاماً قضاها في السلطة، حيث تبين أن غاز مصر كان يباع للإسرائيليين على مدى ما يقرب من عقد من الزمان بأزهد الأسعار.
بدأ ذلك في عام 2005 حينما كان سامح فهمي وزيراً للنفط، وذلك أن إي إم جي – وهي شركة مصرية إسرائيلية أسسها رموز سابقون في جهاز المخابرات تحولوا إلى رجال أعمال – كانت تشتري الغاز بسعر 5ر1 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية وتبيعها لشركة الكهرباء الإسرائيلية بسعر 4 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية. رفع السعر فيما بعد ولكنه ظل دون معدلات السوق، الأمر الذي كبد مصر خسارة لا تقل عن 417 مليون دولار بسبب هذه الصفقة.
اعتقل سامح فهمي في إبريل من عام 2011 بسبب دوره في الصفقة، وأدين أمام القضاء في يونيو 2012 بتهم بيع الغاز بأسعار زهيدة إلى إسرائيل وبهدر المال العام، وحكم عليه بالسجن 15 عاماً.
كما وجهت في نفس القضية التهم لحسين سالم، رجل الأعمال المصري صاحب لقب "أبو شرم الشيخ" والذي استحقه بسبب استثماراته في إنشاءات مدينة المنتجعات السياحية هذه، إلا أن سالم فر من مصر أثناء أحداث الثورة.
ألقي القبض على سالم فيما بعد في منزله بإسبانيا ولكنه لم يسلم إلى السلطات المصرية التي أدانه قضاؤها غيابياً وحكم عليه بالسجن 15 عاماً ضمن نفس المحاكمة التي أدين فيها سامح فهمي.
بالرغم من أهمية موضوع أزمة الطاقة المصرية في الانتفاضات التي جرت إلا أن كثيراً من الأفراد الذين ارتقوا إلى مناصب عليا في وزارة النفط أثناء ترؤس سامح فهمي لها ظلوا في مواقعهم المتنفذة وسعوا إلى الدفع بالصفقة المبرمة مع شركة البترول البريطانية أثناء حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة – أعلى كيان عسكري في مصر استلم السلطة بعد تنحي مبارك وظل متحكماً بها خلال معظم الفترة التي كان فيها محمد مرسي رئيساً للبلاد، كما يقول حاتم عزام.
تم خلال فترة حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة تعيين عبد الله غراب، المسؤول التنفيذي الأول في شركة النفط العامة المصرية في زمن سامح فهمي، وزيراً للنفط. سعى غراب إلى إعادة الثقة إلى الصفقات، ونفى أن تكون البلاد قد تنازلت عن حصتها في الحقلين لصالح شركة البترول البريطانية وشركة آر دبليو إي ديا. وكان غراب قد قال للصحفيين في عام 2011: "نموذج شركة البترول البريطانية لم يخترع في مصر، وإنما هو نموذج يجري تطبيقه في كل بلاد العالم، وهو الذي يجري تطبيقه في العراق على سبيل المثال".
أدت حالة اللاإستقرار السياسي إلى تعطيل المشروع، وفاقم من ذلك في عام 2011 أن سكان إدكو، حيث قيل إن شركة البترول البريطانية كانت تخطط لإنشاء مرفق لحقل الغاز البحري، نظموا احتجاجات ضد المعمل نظراً لتوجسهم من أن تكون له آثار بيئية ضارة على منطقتهم.
بعد أن انتخب محمد مرسي رئيساً لمصر في يونيو 2012، أصبح أسامة كمال هو وزير النفط الجديد. يقول حاتم عزام إن أسامة كمال تسلق السلم الوظيفي في القطاع بمساعدة من سامح فهمي، حيث أسس الشركة القابضة للبتروكيماويات المملوكة للدولة ثم أصبح رئيساً لها أثناء فترة فهمي في الوزارة.
كان حاتم عزام في حينها عضواً منتخباً في البرلمان المصري وكان يشغل منصب الأمين العام للجنة الصناعة والطاقة في مجلس الشعب، وقال إنه حذر مرسي مرتين آنذاك من أن الشبكة التي كانت سائدة في عهد مبارك ماتزال تعمل من وراء الكواليس، إلا أن مرسي فشل في اتخاذ أي إجراء. يقول حاتم عزام: "بدأت شخصياً بالتحدث عن ذلك بصوت مرتفع وبشكل صارخ داخل البرلمان وخارجه وبوجود مرسي، الذي لا يبدو أنه كان قد أطلع بشكل صحيح على تفاصيل صفقات الغاز".
في مايو 2013 رفع حاتم عزام شكاوى ضد الصفقتين لدى النائب العام المصري، وبعد عدة أيام أعلن مرسي عن تشكيل وزاري جديد جرى بموجبه استبدال أسامة كمال بشريف هدارا الذي لم يكن يعتبر كما يقول حاتم عزام جزءاً من الحرس القديم.
يقول حاتم عزام إنه اتصل بشريف هدارا في أول يوم له في الوزارة ليطلعه على الشكاوى التي تقدم بها. وبعد أيام قلائل أعيد فتح المحادثات مع شركة البترول البريطانية بهدف إعادة التفاوض على شروط أفضل لمصر كما يقول، على الأقل من وجهة النظر المصرية.
وبعد شهرين، وعلى إثر الانقلاب العسكري المدعوم شعبياً والذي جاء بالسيسي إلى السلطة تم تجميد القضية التي تقدم بها حاتم عزام لدى النائب العام.
إحياء صفقة شركة البترول البريطانية
جرى إثر تنصيب السيسي رئيسا تعيين شريف إسماعيل وزيرا للنفط، وهو الذي كان أثناء فترة فهمي نائباً لوزير النفط لشؤون عمليات الغاز وكذلك رئيساً لشركة النفط العامة المصرية المملوكة للدولة. يقول حاتم عزام إن إسماعيل أقر العديد من صفقات تصدير الغاز المصري بما في ذلك صفقة شركة إي إم جي لتصدير الغاز إلى إسرائيل.
في يونيو 2014 أخبر إسماعيل وكالة رويترز بأن مشروع شركة البترول البريطانية في شمال الإسكندرية أعيد تدشينه وتعهد بسداد ديون البلاد المستحقة للشركات متعددة الجنسيات بحلول نهاية العام.
وفي فبراير من هذا العام برأت محكمة مصرية فهمي وأسقطت عنه جميع التهم وألغت الحكم الصادر بحقه بالسجن، مما يؤكد من وجهة نظر حاتم عزام عودة الحرس القديم من جديد.
في نفس اليوم الذي يقال إنه جرى فيه إبرام الاتفاقية، قال بوب دادلي، المسؤول التنفيذي الأول في شركة البترول البريطانية مخاطباً الجمهور في مؤتمر شرم الشيخ إن تعهد شركته بالاستثمار في مصر لأمر في غاية الأهمية في زمن انهيار أسعار النفط الذي تسبب في صدمة كبيرة للشركات المنتجة مثل شركته والتي كانت لفترة طويلة تعيش في "عالم من الترف".
وأضاف: "لقد شهدنا خلال العام الماضي، وبشكل خاص خلال الشهور الثلاثة أو الأربعة الأخيرة، المصطلح الذي يستخدمه كثير من الناس في مصر: بإمكاننا أن نرى تجاوز الروتين الحكومي. أن يتخذ هذا القرار في عام 2015، وهي السنة التي لا نحقق فيها نفس الشيء في كثير من الأماكن حول العالم، ينبغي تارة أخرى أن يكون مؤشراً على أن بيئة الأعمال في مصر قد تبدلت".
إلا أن حاتم عزام، الذي يعيش الآن في المنفى في أوروبا، تساوره الشكوك بشأن ما يزعم من إنجازات مالية لصالح مصر حققها مؤتمر شرم الشيخ الذي عقد في جولي فيل موفينبيك المملوك من قبل حسين سالم رجل الأعمال صاحب العلاقة بصفقة الغاز المصرية الإسرائيلية.
ويقول: "إن المستفيد الوحيد من المؤتمر هو حسين سالم الذي حصل على حجوزات لمقر انعقاد المؤتمر وللفنادق. هذا هو المال الوحيد الذي يمكن أن نقول على وجه التأكيد بأن المؤتمر كسبه".
ورغم الوعود التي قطعت أمام الملأ إلا أن السؤال الذي يبقى مطروحا هو: ما هي بالضبط شروط الاتفاقية التي أبرمت بين شركة البترول البريطانية وشركة آر دبليو إي ديا وشركة النفط العامة المصرية؟ وهل سيتم أخيراً إنتاج الغاز من حقل شمال الإسكندرية وحقل غرب المتوسط للمياه العميقة؟
تقول شركة البترول البريطانية إن الغاز سيبدأ في التدفق في عام 2017 وأن المشروع سيوجد 5000 وظيفة جلها سيكون من نصيب الأيدي العاملة المصرية.
قالت شركة البترول البريطانية في تصريح لميدل إيست آي إن المشروع: "إن المشروع سيوجد منصة لدر الأموال من الموارد المستقبلية خلال الثلاثين عاماً القادمة أو ما يزيد، وسوف يتم في المستقبل تقييم المراحل الإضافية القادمة لتطوير الموارد المتبقية".
ويقول باتر إنه بعد العديد من البدايات الزائفة، يبدو المشروع الآن واعدا.
ويضيف: "لقد مضى بالفعل زمن طويل، ولابد أنكم يساوركم القلق من أن خللاً ما قد يحصل. ولكن، نعم، أقول لكم إن التنفيذ يجب أن يمضي قدماً خلال العامين القادمين، ولذا أعتقد أن بعض الغاز سيأتي من هناك".
إلا أن مينيو بالويلو يشكك فيما إذا كان ذلك سيحصل، سواء كان هناك نقص في الغاز أم لا، بموجب الشروط الحالية.
ويقول: "إن الموارد هي ملك للدولة وللشعب. ومن المتعارف عليه أنك إذا ما أحضرت شركة خاصة لتقوم بالعمل فإنه سيسمح لها بتحقيق مردود معقول، ولكن ينبغي أن تؤول معظم الأموال إلى الدولة لأننا هنا نتحدث عن موارد الشعب، وهذه لا يستفاد منها إلا مرة واحدة".
أما حاتم عزام، فتساوره الشكوك حول ما إذا كانت هناك اتفاقية جديدة.
ويقول: "لا يوجد برلمان الآن. ولذا، إذا ما وقع السيسي على الاتفاقية فلا بد أن تنشر، ولم يعلن أحد حتى الآن عن أن شيئاً قد نشر".
وحتى إذا ما تم فعلاً التفاوض على اتفاقية ما، فثمة أسئلة مطروحة كما يقول، "فلا يعني ذلك شيئا ما لم تتمكن من رؤية الشروط المنصوص عليها في الاتفاقية. بإمكانك أن تطلق عليها اتفاقية حاتم عزام، ولكنها لا تعني شيئاً لأنهم في عام 2010 أطلقوا عليها اسم شراكة إنتاجية ولكننا لم نحصل على شيء إطلاقا".
"ولذا، فأنا أوجه السؤال نفسه: ما الذي ستخرج به مصر منها؟".
* لمطالعة النص الأصلي... اضغط:
هنا