تتغلغل تفاصيل الحرب في الذاكرة، يستعيدها الإنسان مع كل قطرة دم، وصرخة أم، ودمعة طفل، وإحياء مجزرة. يقال دائماً إن لمجتمعات الحروب صفات خاصة، لأن الناس يتجاوزون أي عقبة لتستمر الحياة، ويحاولون أن يعوضوا كل حرمان بتفوق أو إنجاز، لكن الجزء المختبئ الذي لا يراه أحد يبقى في الذاكرة، ما إن يتم نبشها بقصة أو حادثة حتى يتحول الشخص القابع أمامك إلى كتاب قد دوّن كل حدث في تلك الحرب.
فكيف إذا كانت الذاكرة للأطفال، قد يكون الألم أكبر حين يعشعش بذاكرة غضة لطفل لم يخبر في الحياة لغة غير السلاح، وربما قد يتخيل أن لا طيور في الجو غير الطائرات التي تلقي براميلها، ولا صوت فيها سوى أصوات الرصاص والبكاء والصراخ، ولا لون فيها غير لون الدم.
يحكي "زين"، ذو الخمس سنوات، عن نجاته من مجزرة
بيت سحم، حين كانت تدوس أقدام جنود بشار الأسد الجثث المتناثرة على حاجز بيت سحم، وهم يصرخون بصوت عالٍ: "مين عايش"، كل من كان يرد عليهم بـ"أنا" يطلقون عليه الرصاص فورا.
كان "زين" بجانب أبيه ومعه أخوه الرضيع ذو الخمسة أشهر، وكان البكاء قد أضنى الرضيع، إلا أن قوة إلهية ألهمت "زين" أن يضع إصبعه في فم أخيه حتى لا يصرخ كثيرا.
يتابع زين: "أنا خفت كتير من العسكري وما رديت عليه ولا رفعت إيدي، وسديت تم أخي يلي عم يبكي، حتى ماعاد حدا نادى، بعد شوي سمعت رجع الصوت بس من بعيد، وقالوا في حدا هون، رجعت خفت، وسديت تم أخي الصغير، رجع الرجّال صرخ مرة تانية، لا تخافوا نحنا الجيش الحر لا تخافوا ما رح نقتلكم، أنتو بس امشوا لعنا".
أحس الصغير بشيء من الأمان، والتقط أخاه الرضيع ومشى إلى الأمام قليلاً متجهاً إلى عناصر الجيش الحر، سحبوا الطفل وأخاه، حتى أحضروه إلى جدته.
صمتت الجدة بألم، وقالت: "هربنا من حرب إلى حرب، كنا في فلسطين نظن أننا أمام أشرس عدو، وهربنا إلى هنا. لكنني في تلك الليلة المشؤومة فقدت اثنين من أبنائي مع زوجاتهن، ولم ينجُ من تلك المجزرة إلا هذا الطفل وأخوه".
كان الطفل يتحدث ويتلعثم بشكل ملحوظ، حتى خطاه في المشي بدت بطيئة، علت وجهه ندبة من آثار إصابة كان قد تعرض لها، إلا أنها لم تؤثر على ذاكرته، وعلى ذكريات الساعات التي قضاها بين الجثث المتفحمة وأصوات العساكر الذين ينادون للوقوف على طابور الموت، لم تؤثر على حنينه لحضن أمه التي كانت ملقاة بجانبه مع أبيه مضرجة بدمائها، ربما لم يكن يدري حينها أن ابتعاده عنها في هذه اللحظة يعني الفراق الأبدي، يعني أن يعيش طفل في هذا العمر معنى الفقد والوجع والموت.
تتحدث الدكتورة "سارة"، وهي شاهدة على تلك المجزرة التي حدثت في كانون الأول/ ديسمبر 2013: "بعد إقناع النظام الأهالي الفارين من جنوب دمشق أنه بإمكانهم الدخول إلى المنطقة، (إلا أن) قوات النظام وبلحظة غدر أطلقت نيرانها على جميع الأهالي المتواجدين هناك، ما أسفر عن وقوع 30 شهيداً وسقوط عشرات الجرحى. حينها أحضر الشباب الطفلين إلى المركز الطبي في المدينة. في ذلك اليوم بكيت ربما عن أيام الثورة كلها، بتُّ أحدق في عيونهم وأتساءل داخلي: ما ذنبهم أن يعيشوا هكذا بلا (عائلة)؟ ألاَّ يتعرفوا على أهلهم عندما يكبرون؟ إن كانوا قد نجوا من نار الأسلحة هل سينجون من نار الحقد التي عاشت معهم في تلك اللحظة؟!".
وتتابع "سارة" حديثها: "طيلة هذه الفترة حاولت أن أتناسى هذه القصة، فالحرب تزودنا يومياً بعشرات المآسي، حتى طلبتني عجوز إلى بيتها لأنها مريضة، وعندما رأتني قالت لي: ألم تتذكريني، أجبتها: لا والله يا خالة، ذاكرتي لا تسعفني في تذكر كل المرضى. وبعدها جاءت بهذين الطفلين، وطلبت من "زين" إخباري من هو وأين ذهب والده، وسرد لي القصة كلها".
"كانت ذاكرتي قد خانتني في تلك اللحظة، لأني أحاول أن أنسى لأعيش، لكن كيف ستقتلع ذاكرة طفل مضرجة بدماء والديه وأهله، ستبقى تلك الذاكرة شاهدة على
مجازر تدونها الأيام، ذاكرة الأطفال باتت تاريخنا الذي يدوَّن"، تقول الدكتورة سارة.