كتب جاك شينكير مقالا لصحيفة الغارديان من
شرم الشيخ؛ قلل فيه من أهمية الوعود التي تلقتها القاهرة من الدول المانحة والمستثمرين، مشيرا إلى أن التعهدات الكبيرة هي أشبه ما تكون بفقاعة معزولة تدور خارجها عمليات عسكرية في سيناء، وتعاني أغلبية الشعب بعيدا عنها من الفقر والعنف والجوع.
وفيما يلي النص الكامل للمقال:
شيء ما يقرقع على سواحل البحر الأحمر، ليس ذلك صوت الطائرات المروحية المقاتلة التي تحوم في الأجواء، ولا هو صوت القوات الخاصة المنتشرة في المكان وقد أخفى عناصرها وجوههم بأقنعة داكنة ومناظير سوداء بينما يجوبون شوارع المدينة التي طبعتها الشمس بقبلاتها. بل إن مصدر القرقعة هو مركز المؤتمرات الدولي داخل شرم الشيخ حيث اجتمع جبابرة الأعمال ورؤساء الدول يربت بعضهم على ظهر بعض ويفلقون أرغفة الخبز تاركين خلفهم أثاراً من فتات المعجنات الدنمركية.
إنها القرقعة المصاحبة لعملية إعادة بناء الوطن على أيدي المؤسسات التجارية، وهناك الكثيرون – في
مصر وفيما وراء حدودها – ممن يأملون بأن تكون هذه القرقعة صاخبة بما يكفي لأن تغطي تماماً على الأصوات المنافسة لها الصادرة عن حركات الاحتجاج والمقاومة والمعارضة.
مؤتمر التنمية
الاقتصادية في مصر، الذي جذب أكثر من 1700 مستثمر ومسؤول حكومي وخبير استشاري – إضافة إلى طوني بلير – إلى جنوب سيناء نهاية هذا الأسبوع، اعتبر حفلة نضوج وطني: احتفاء باللحظة التي سيتمكن فيها هذا البلد أخيراً من تجاوز سنوات المراهقة المزاجية للانتفاضة الثورية وينضم إلى عالم الحداثة الغربية البالغ حيث تتمتع الأسواق بالسيادة وحيث المظاهرات لا معنى لها وحيث تعتبر أحداث عنف الدولة مواضيع من غير المناسب التطرق لها داخل المجتمع المخملي.
وشرحاً لذلك، يقول أحمد هيكل، مؤسس شركة "قلعة القابضة"، إحدى أكبر الشركات الاستثمارية الخاصة في الشرق الأوسط، والمسؤول التنفيذي الأول فيها: “الصور التي تخرج من هذا الجزء من العالم، وبسبب طبيعة وسائل الإعلام، لا تمثل ما يجري حقيقة على الأرض. ونحن نريد أن نوصل الجزء الطبيعي من القصة والأكثر صدقاً في تمثيل الواقع، ومفاده أن مصر مفتوحة للعمل.”
لن تجد أبعد تمثيلاً للواقع من مؤتمر بهذه الفخامة ينعقد بأسره داخل فقاعة بينما خارجها تدور رحى تمرد مسلح في شمال سيناء وتنفجر ما معدله أربع قنابل أسبوعياً داخل القاهرة بينما يعاني ثلث الأطفال على مستوى الوطن من سوء التغذية. ولكن صحيح أيضاً أن مصر تحت إدارة الرئيس عبد الفتاح السيسي مفتوحة جداً للعمل. فقوانين الاستثمار والإفلاس الجديدة تمنح حصانة شاملة للمستثمرين ولمسؤولي الحكومة إذ يتعاملون فيما بينهم بأموال الدولة، وتخفف القيود الموضوعة على الممتلكات العامة بحيث تؤول إلى أيدي القطاع الخاص مجاناً بلا مقابل، وتمكن الشركات الأجنبية من التخلي عن المشاريع المخصصة إذا ما رأت ذلك وفعلياً دون أن تضطر إلى تكبد أي جزاءات. يتم حالياً إعداد قوائم بمشاريع البنى التحتية التي ستؤول إلى شراكات بين القطاعين العام والخاص، بينما يجري في نفس الوقت تخفيض الضرائب على المؤسسات وكبار رجال الأعمال، وتفرض قيود صارمة للحد من قدرة العمال على الإضراب عن العمل.
الرواية التي يتم تداولها داخل المؤتمر مفادها أن كل هذه الإجراءات جديدة جداً. وحيثما ذهبت يسود الشعور بالانبهار كل أرجاء مقر المؤتمر، من منصة القاعة الرئيسية إلى غرف التداول الثنائي المفعمة بالنشاط والحيوية، إلى موائد طعام الغداء المقدم مجاناً، إلى الموقع المخصص لبرنامج "السوق" على أجهزة الهاتف الذكية – حيث بإمكان "القادة ومن بيدهم مقاليد الأمور" الترتيب للاجتماع معاً من خلال "مواعيد ذهنية" – وهو أشبه ما يكون بالولاعة النيوليبرالية، وكأن أحداً لا يكاد يصدق الإيجابية والحالة التجديدية التي آلت إليها أوضاع مصر في عهد السيسي.
كانت كريستين لاغارد، رئيس صندوق النقد الدولي، واحدة من أوائل الذين أطروا على مؤهلات الرجل صاحب الذهنية الإصلاحية، وهو نفس الرجل الذي يتحمل المسؤولية عما اعتبرته منظمة هيومان رايتس واتش (والتي تم حجب موقعها من قبل مقدم خدمة شبكة الإنترنيت داخل المؤتمر) واحدة من أكبر المجازر التي تنفذها دولة ضد متظاهرين في العصر الحديث. وسار على خطاها على مدى نهاية الأسبوع إطراءً على الرجل كل من وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ووزير الخارجية البريطاني فيليب هاموند وطوني بلير.
تقصر الذاكرة أحياناً عن سوابق تكررت. فنظام الدكتاتور مبارك كانت سمته المميزة نموذجاً اقتصادياً يقوم على التنمية من خلال الاستثمار الأجنبي، وقد لقي عليه موافقة متهللة من صندوق النقد الدولي، وما تمخض عنه كان فساداً ملحمياً، وثراء فاحشاً لبطانته من الطبقة الرأسمالية في أعلى الهرم وبؤساً وشقاءً لكل ما سواهم. كان شعار الثورة "خبز، حرية، عدالة اجتماعية"، إلا أن أحداً من الأنظمة التي جاءت بعد مبارك – بدءاً بالعسكر الذين تولوا السلطة مباشرة بعد انتفاضة يناير 2011، مروراً بحكومة محمد مرسي والإخوان المسلمين التي لم تعمر طويلاً وكانت تسعى بقوة نحو السوق الحرة، إلى النظام العسكري الاستبدادي الجديد – لم يعبأ أي منهم بأخذ المطلب الأخير في شعار الثورة على محمل الجد. في الأسبوع الماضي أعلن الإخوان المسلمون أن مصر ليست للبيع، الا ان المؤسسات متعددة الجنسيات التي توقع حالياً الصفقات في شرم الشيخ هي نفسها التي كان يسعى وراءها مرسي أيضاً. في قمة مصر الاقتصادية، كلما تغيرت الأمور كلما ظلت على ما هي عليه.
في الواقع ليس المؤتمر سوى قاعة عرض يسعى من خلالها العسكر الحاكم في مصر إلى تقديم رؤية للمستقبل وكأن كل شيء على ما يرام أو كأن شيئاً لم يتغير. وهو مستقبل من المفترض أن تعمل فيه رؤوس الأموال الخليجية والغربية في شراكة مع كبار قادة الجيش لاقتسام البلد وتحويلها إلى سلع، وهو مستقبل يجري فيه تحديد ملامح الهوية المصرية من قبل الجاثمين على قمة هرمها، وهي الهوية التي ظلت محل تنازع في الشوارع المصرية خلال الأعوام الأخيرة. ولكن ما كان بإمكان السيسي أن ينجز مثل هذا العمل الفذ وحده، بل يعود الفضل فيه إلى شبكة مترابطة من المكاتب الاستشارية الدولية ووكالات العلاقات العامة من أعلى المستويات، يجمع فيما بينها أنها متخصصة في تجميل صورة البلدان ببراعة وإتقان.
أشرفت على إنجاز الحدث مؤسسة اسمها "ريتشارد آتياس أند أسوسييتس (آر إيه إيه)، وهي مؤسسة استشارية استراتيجية تدار من قبل الرجل الذي أسس المنتدى الاقتصادي العالمي الذي يعقد في دافوس. تشترك آر إيه إيه في مقرها الرئيسي في لندن مع "غلوبال كاونسيل"، وهي مؤسسة لوبي (مهمتها السعي للتأثير على صانع القرار السياسي) يديرها الوزير العمالي السابق بيتر مانديلسون – والذي انبري علناً للدفاع عن جمال مبارك، ابن الرئيس، حينما اندلعت الثورة في مصر. كما أن مانديلسون هو رئيس "لازارد" وممثلها الدولي، ولازارد عبارة عن طاقم متخصص في الاستشارات المالية، وقد أنيطت بها مهمة تقديم النصح والمشورة لحكومة السيسي بشأن السياسة الاقتصادية. مع العلم أن آر إيه إيه و غلوبال كاونسيل كلاهما تتبعان "دبليو بيه بيه" والتي هي أكبر شركة إعلانات في العالم، وكان مسؤولها التنفيذي الأول السير مارتين سوريل متحدثاً رئيسياً في المؤتمر. وأما توني بلير، والذي يقوم حسبما كشفت الغارديان في العام الماضي بمهمة مستشار لدى الرئيس السيسي ضمن برنامج استشارات تموله الإمارات، فكان نجماً آخر تألق على منصة المؤتمر.
لقي بلير تصفيقاً حماسياً ومدوياً حينما خاطب المؤتمرين قائلاً: “أظن أنها المرة الأولى حسب ذاكرتي التي تحظون فيها بزعامة في مصر تفهم العالم المعاصر وعلى استعداد لأن تتخذ الإجراءات التي تناسب العالم المعاصر وتريد لمصر أن ترتبط بالعالم المعاصر بالطريقة الصحيحة.”
لاشك أن شخصيات مثل بلير وسوريل وآتياس تعتبر شخصيات مركزية بالنسبة للسيسي بينما يسعى جاهداً للحصول على الشرعية الدولية. يوجه النظام رسالة إلى العالم من شقين، يبدوان متناقضين، ولكن الخبراء في خلق الانطباعات وتطويعها يعملون بكل جد ومثابرة على تنعيم الالتواءات والاعوجاجات الكائنة بينهما. والشق الأول من الرسالة مفاده أن مصر تقف في الخط الأمامي من جبهة "الحرب على الإرهاب" وأنها يمكن أن تنهزم على أيدي المتطرفين لولا القهر والبطش الذي يمارسه نظام السيسي، بينما يفيد الشق الثاني من الرسالة أن مصر قبلة آمنة للسياحة والاستثمار الأجنبي. في تصريح للغارديان، قال سوريل: “المؤتمرات تهوى تغيير الصورة، فذلك يغير من المناخ، ويغير من الانطباع، ولو أخذنا بالاعتبار ما جرى في مصر خلال السنوات الأربع الماضية، من الواضح أن الماركة تغيرت وبات من الضرورة بمكان إعادة موضعتها".
إلا أن النقاد يقولون إن "إعادة التموضع" ما هو إلا مصطلح العلاقات العامة للتعبير عن "تبييض" انتهاكات حقوق الإنسان والتغطية عليها. فتحت رئاسة السيسي يقبع عدة آلاف من السجناء السياسيين وراء القضبان، وبات التظاهر محظوراً، واستشرى التعذيب على أيدي قوات الأمن. في العام الماضي وحده قتل تسعون معتقلاً داخل الزنازين، وذاع صيت واحد بالذات من مراكز الشرطة – وهو في حي المطرية بالقاهرة - حتي أصبح الناس في الحي ينعتونه بأنه "مقبرة الأحياء". وفي يناير قتلت أم شابة وشاعرة اسمها شيماء الصباغ برصاصة في الرأس من قبل قوات الحكومة بينما كانت تقترب من ميدان التحرير لتضع إكليلاً من الزهور إحياء لذكرى من قتلوا في الثورة.
وحينما سألت الغارديان ريتشارد آتياس عن رأيه في هذه الحوادث قال: "بصراحة، لست واثقاً على الإطلاق من ذلك. أعتقد أن عليك أن تسأل السلطات المحلية … إنك لن تساعد الناس هنا على حل قضاياهم الداخلية العميقة من خلال إقصاء بلدهم عن المجتمع الدولي".
أما بلير، فاستبدال الديمقراطية بالاستقرار لا يبدو شيئاً عسيراً بالنسبة له، حيث قال مخاطباً المؤتمر: "انظروا! أنا مؤيد بشكل مطلق للديمقراطية وأنا أعتقد أن جميع البلدان، في نهاية المطاف، ستصل من خلال تنميتها إلى الوضع الذي سيتمكن فيه مواطنوها من انتخاب الحكومة. ولكني أعتقد أيضاً إنه ينبغي عليك أن تكون واقعياً في بعض الأوقات بشأن مسار التنمية، وأنك في بعض الأوقات سيكون لديك بلد لا يوجد فيه ما يمكن أن نسميه 100% ديمقراطية على النسق الغربي، ولكن ذلك من ناحية أخرى يسير في اتجاه التنمية التي هي في غاية الأهمية".
ما من شك في أن توجه مصر نحو التنمية أمر في غاية الأهمية، ولكن يبقى السؤال المطروح بحثاً عن إجابة: من الذي سيستفيد من هذه التنمية؟ فبالرغم من كل التعبيرات الطنانة في المؤتمر حول الفوائد المشتركة والاندماج الاقتصادي، ما فتئ السيسي حتى الآن يتبنى خطة تقشف معهودة وعرفها الناس حتى السأم. ورغم أن الاستثمار الأجنبي من الممكن نظرياً أن يكرس لصالح كافة مواطني مصر الذين يبلغ تعدادهم تسعين مليون نسمة، إلا أنه طالما استمرت الدولة واقتصادها رهن القبضة الحديدية لضباط الجيش الذين لا يتحملون أدنى درجة من المعارضة وطالما استمر استشراء الفساد في مفاصل الدولة، فمن الصعوبة بمكان تصور كيف ستؤول مصر السيسي "المفتوحة للعمل" إلى وضع مختلف عما كانت عليه مصر مبارك.
لقد تحمس كثير من المصريين إثر سماعهم الوعود الكبيرة – استثمارات بمليارات الدولارات، تراجع كبير في معدلات البطالة، وعاصمة جديدة – التي ورد ذكرها في المؤتمر وحفلت بتغطية بارزة في وسائل الإعلام المحلية. ولكن يصعب أيضاً تصور كيف يمكن احتواء موجة جديدة من الاضطرابات إذا ما تسببت نخبة سياسية قمعية أخرى من إحباط الناس تارة أخرى.
يقول سوريل: "إذا كان لديك منتج سيء – وهذا ينطبق أيضاً على السياسة – فباستطاعتك فقط إقناع الناخبين أو أن تقنع شخصاً ما بشراء شيء ما مرة واحدة. لن تتمكن من الضحك على الناس مرتين".
ولكنك في الواقع تجد أن كبار الشخصيات والمستشارين من أصحاب الخبرة والاختصاص في مجال التزويق والتبهير الذين تدافعوا إلى منتجع البحر الأحمر في الأيام القليلة الماضية لديهم ثقة بأن العكس تماماً هو الصواب، وبأن قرقعة المؤتمر ستسكت كل المتشككين. لعلهم يكتشفون أن هذه الثقة في غير محلها. فخارج جدران مركز المؤتمرات الدولي بشرم الشيخ، تعود المصريون على إنتاج قرقعة خاصة بهم.