يقاس النجاح السياسي لأي جماعة بمدى امتلاكها أوراق ضغط تستطيع بها إلزام عدوها بتحقيق مصالحها، وإشعاره أن لديه ما يخسره إن فكر في الاعتداء أو التضييق عليها، فإن فقدت هذه الجماعة أوراق الضغط الكافية في مواجهتها فستجد نفسها مكبلةً عن القدرة على تحقيق أهدافها أو إبداء أي قدر من المناورة والحركة.
بهذا المقياس، فإن الواقع السياسي للمقاومة الفلسطينية في قطاع
غزة يتطلب مراجعات نقديةً جادةً تبدأ بطرح السؤال الأساسي: هل لا تزال هذه المقاومة قادرةً على ممارسة الضغط على الاحتلال؟وهل يشعر الاحتلال بتهديد جاد من قبلها يلزمه بتحقيق الأهداف التي تسعى إليها هذه المقاومة في هذه المرحلة، وليس أقلها رفع الحصار وفتح
المعابر وتحسين الأوضاع المعيشية، بما يمنح قطاع غزة الحد الأدنى من مقومات الحياة وينقذه من حالة الموت السريري الذي يعاني منه؟
الواقع يقول إن
المقاومة الفلسطينية أخطأت حين حولت طبيعة المواجهة مع الاحتلال من كونها مواجهةً ذات طابع شعبي استنزافي تراكمي إلى طابع المواجهة بين الجيوش النظامية، فلم نعد نرى في الساحة الفلسطينية نموذج الانتفاضة الدائمة التي تستنزف العدو أمنياً وسياسياً واقتصادياً إنما صرنا نرى حروباً موسميةً قصيرةً تستمر بضعة أيام أو أسابيع لتحل بعد ذلك التهدئة ويلتزم الطرف الفلسطيني بوقف إطلاق النار ويتحمل مسئولية أي خرق لهذا الاتفاق.
مشكلة تحويل النضال الفلسطيني إلى طابع المواجهة الحربية الموسمية أنه يفقد القضية زخمها الشعبي ويمنح العدو فرصة التقاط الأنفاس وإنعاش اقتصاده في أوقات التهدئة الطويلة ويمنحه أوراق قوة كونه الطرف الأقوى سياسياً وعسكرياً، فالمقاومة تستعمل كل ما تملكه من سلاح في أوقات الحرب القصيرة فإن انتهت الحرب بتهدئة لم تعد قادرةً على استعمال سلاحها.
أما العدو فيظل في جعبته دائماً أدوات اقتصادية وسياسية كثيرة لاستعمالها لا تتضمن الشكل العسكري لكنها لا تقل إضراراً منه مثل إغلاق المعابر وتشديد الحصار أو احتجاز الضرائب، إن حقيقة المشكلة يمكن تلخيصها في أن العدو يمتلك أدوات متنوعةً للضغط على الفلسطينيين تبقيه المتحكم السياسي في كل الأوقات في حين أن المقاومة بشكلها الحالي لا تمتلك إلا أداةً واحدةً لا تستطيع استعمالها دائماً مما يقيد حركتها ويجعلها عاجزةً أمام الابتزاز الإسرائيلي.
ظهرت حقيقة مشكلة انعدام الخيارات السياسية أمام المقاومة الفلسطينية في مرحلة ما بعد الحرب المدمرة الأخيرة على قطاع غزة، فقبل هذه الحرب كانت المقاومة تلوح بخيار المواجهة العسكرية ضد الاحتلال للضغط عليه وعلى مصر لكسر الحصار وفتح المعابر، والتهديد باستعمال أوراق القوة كثيراً ما يكون أبلغ من استعمالها الفعلي.
لكن لما جاءت الحرب واستعملت المقاومة ورقتها التي كانت تهدد بها وقابل الاحتلال بدوره المقاومة بردود قاسية تمثلت في تدمير شامل في قطاع غزة ترى بعض التقديرات أنه يحتاج إلى مائة عام لإعادة إصلاحه، ثم انتهت هذه الحرب الأكثر شراسةً باتفاق يتضمن بنوداً فضفاضةً دون ضمانات تلزم الاحتلال بتنفيذها، وسرعان ما وجد الاحتلال نفسه في أريحية للتهرب من أي التزامات فبقي الحصار بعد تقديم أكثر من ألفي شهيد وتدمير هائل في قطاع غزة بل ازداد سوءً وأحكم إغلاق المعابر، ووجد الفلسطينيون أنفسهم عاجزين عن إلزام الاحتلال بشيء بعد أن استعملوا كل ما يملكونه من أوراق قوة ولم يعد في جعبة سهامهم المزيد منها للتهديد برميها.
لست غافلاً عن اختلال موازين القوى لصالح دولة الاحتلال وعن قسوة الواقع الإقليمي في ظل العداء الصريح الذي يبديه النظام المصري ضد قطاع غزة، لذلك لست هنا في مقام جلد المقاومة الفلسطينية بل في مقام البحث والتفكير في خيارات لصالحها تمكنها من التنفس وتخفيف الخناق المضروب حول عنقها وامتلاك أدوات ضغط حقيقية تشعر الاحتلال أن لديه ما يخسره إن لم يرفع الحصار عن قطاع غزة، هذه الخيارات لا بد أن تأتي من خارج ثنائية إما المواجهة العسكرية مع العدو التي لا يحتملها الواقع الفلسطيني في ضوء تفاقم المعاناة الإنسانية وتعاظم مشاهد التدمير في القطاع وإما الانتظار السلبي للموت والاكتفاء بالمناشدات التي لن يلتفت إليها أحد في ظل معادلة ظالمة لا تصغي إلا للأقوياء الذين يرفقون مناشداتهم بتهديدات جادة ممكنة النفاذ..
هذه الخيارات تتمثل في تفعيل أوجه المقاومة الشعبية السلمية التي يستطيع الفلسطينيون ممارستها بثمن أقل تكلفةً من ثمن المواجهة العسكرية كما أنها تحرم العدو من الاستقرار والهدوء الذي ينعم به الآن، وتغير من الطابع الذي بات ملاصقاً لقطاع غزة في الأذهان والذي يصوره بأنه معقل لجماعات مسلحة دون إبراز صورة الشعب و أوجه التعدد المدني في داخله..
إن الفلسطينيين في قطاع غزة تحديداً منهكون بعد ثمانية أعوام من الحصار المشدد وبعد ثلاثة حروب باهظة التكلفة لذلك سأعذر أي رد سلبي على أي دعوة جديدة للمواجهة، لكن ما أود الالتفات إليه هو أن المواجهة التي أدعو إليها تمثل حد الضرورة الذي لا بد منه في سبيل البقاء، فنحن هنا نريد أن نواجه في سبيل توفير لقمة الغذاء وعلبة الدواء ومواد البناء وهي مواد ضرورية لا يستطيع إنسان الاستغناء عنها، إننا لا ندعو إلى المواجهة التي تأتي بديلاً للاستقرار بل ندعو إلى المواجهة التي تأتي بديلاً للموت والفناء.
بحسب الفلسطينيين في قطاع غزة في هذه المرحلة أن يرفعوا شعار البحث عن حياة إنسانية كريمة ورفع الحصار وفتح المعابر وحرية التنقل والحركة وهي مبادئ إنسانية بسيطة لكنها ضرورية لإعادة إنعاش الحياة وجعل الناس قادرين على التفكير بعد ذلك في قضاياهم الكبرى، إننا لا نتوقع من إنسان لا يجد قوت طفله أن يظل في عقله متسع للتفكير في القدس والعودة، فلا بد من حماية كرامة الإنسان مقدمةً لتعزيز صموده وانتمائه الوطني.
أقترح استلهام تجربة نعلين وبلعين في قطاع غزة عبر تفعيل الأنشطة الشعبية اليومية والأسبوعية بالقرب من الخط الفاصل مع أراضي 48 شرق القطاع وكذلك غربه في البحر الذي يخضع بدوره لحصار محكم، والإبداع في هذه الأنشطة الاحتجاجية واستقدام المتضامنين الأجانب من دول العالم ورفع شعارات واضحة بكل لغات العالم تطالب بفتح منافذ غزة إلى العالم و إدخال الدواء والغذاء ومواد البناء والسماح بحرية التنقل لسكان قطاع غزة.
ويمكن تكثيف هذه الأنشطة بعد ذلك لتصبح على غرار ميدان تحرير جديد في مواجهة دولة الاحتلال وتنظم هذه الأنشطة بالموازاة مع حملة مساندة جماهيرية وإعلامية ضخمة عبر العالم، ويراعى في "ميدان التحرير الفلسطيني" أن يظهر التعدد الحقيقي في المجتمع الفلسطيني عبر المشاركة الفاعلة من قبل كافة مكونات المجتمع الفلسطيني من مؤسسات مدنية ونقابات وروابط وأن تغيب تماماً أية شعارات أو شخصيات فصائلية مستهلكة ويرفع العلم الفلسطيني وحده، وأن يكون هذا التحرك بعيداً نسبياً عن خط التماس مع الاحتلال بما يجنبه الانحراف عن طبيعته السلمية أو رفع تكلفته بما يزهد الفلسطينيين فيه أو يدفعهم إلى التهور والدخول في مواجهة مسلحة جديدة سيجد فيها الاحتلال فرصته الذهبية لقتل الطابع الشعبي السلمي.
وبالتزامن مع هذا النشاط في قطاع غزة تكون هناك نماذج مساندة في الضفة المحتلة وفي فلسطين المحتلة عام 48 لتأكيد وحدة القضية ووحدة الأهداف والمصير.
أحسب أن مثل هذه الأفكار مؤكدة النتائج لو أحسن الفلسطينيون الانتباه إليها وإدارتها بكفاءة، إذ إن قوة الفلسطينيين الحقيقية هي في العدالة الأخلاقية لقضيتهم وقدرتهم على تحشيد العالم لمساندتهم في حقوقهم العادلة وللضغط على الاحتلال، ولا أظن أن دولة الاحتلال من القوة بحيث تستطيع الصمود طويلاً أمام استنزاف شعبي حقيقي يعري جرائمها أمام العالم ويفضح انتهاكها لأبسط الحقوق الإنسانية ولن تملك إسرائيل أمام ضغط شعبي مكثف مسنود بتنامي المقاطعة الدولية لها إلا أن تراجع كثيراً من سياساتها تجاه الفلسطينيين حين ترى منهم إصراراً ووعياً بالأدوات الضاغطة عليها.
لقد سلكنا طرقاً كثيرةً فلم نصل إلى الهدف فهلا جربنا طريقاً جديداً وأقل تكلفةً؟