المصريون ركبوا داعش الحمار بالمقلوب، علقوا الجرس في رقاب الدواعش، وأغروا بهم صبيانهم، المصريون استخدموا التقنية لتركيب نشيد التنظيم على فيديوهات راقصة، أغلبها يتميز بالخلاعة، أو الفانتازيا، أجمل النسخ كانت للفنانة نادية لطفي في رائعة نجيب محفوظ قصر الشوق، زبيدة العالمة تهتز على إيقاعات داعش، ما الذي حدث؟، وهل يصلح الرقص سلاحا في مواجهة الذبح؟
ثمة خرافات كثيرة تنسجها الأنظمة الفاشية حول شعوبها، للتعويض النفسي عن التردي الذي تعيش فيه هذه الشعوب والانحطاط في شتى مناحي الحياة، في مصر نحن أم الدنيا، قد الدنيا، ملوك الجدعنة، بلد الأمن والأمان، إلخ.
لا أميل إلى تصديق شيء من هذا الهراء، نحن شعب مثل كل الشعوب، لنا ما يميزنا، بحكم ميراث التاريخ، والحضارة، لكننا في النهاية، بشر، ليس على رأسنا ريشة، لا يحابينا الله، كما لم ولن تحابينا الطبيعة، عاديون، تنطبق علينا سنن الكون، والحتميات التاريخية، مثلنا مثل غيرنا.
ومع ذلك، فالمصري ظاهرة في سخريته، ربما يكون ذلك من أهم وأخطر ما نتميز به، وهو ليس ميراثا حضاريا قدر ما هو نتيجة مباشرة لميراث استبدادي عريق!!
نحن نسخر حين نعجز، ونزداد
سخرية واستهزاء حين يتعمدوا أن نجهل، لا يقف المصري مثل المسمار، عاجزا عن فعل شيء، يبتكر النكتة السياسية منذ قديم الأزل، يبتكر النكتة الاجتماعية، يشبع خصومه الدينيين، والسياسيين، والحضاريين، سخرية، يسخر من نفسه، من أوجاعه، يسخر من كل شيء، طالما لا يقدر على تغييره.
الصهاينة هم أقل عدو تاريخي سخرنا منه، ذلك لأننا مقتنعون أن هذه المباراة حسمت لصالحنا، لا تهم حسابات السياسة، المصري إذا اقتنع لم يعبأ بالتفاصيل مهما كانت مهمة، وخطيرة، فلتذهب كامب ديفيد إلى الجحيم، ليكن السادات قد هزم، لكننا نحن انتصرنا، واستعدنا كرامتنا قبل أرضنا، ولذلك لم يكن للسخرية نصيب واسع، فنحن لا نحتاج للتعويض.
الصعايدة هم أكثر من سخرنا منهم، الجنوبيون، هؤلاء الأقوياء، بنية وإرادة، الذي يعجز أمام صلابتهم وقدرتهم على شيل الحمول البندري فضلا عن أهالي وجه بحري، أشبعناهم نكتا، عن غبائهم، ربما لأنهم أكثرنا قدرة وذكاء.
أكثر الرؤساء نصيبا، هو مبارك، حالة مستعصية، لا حل لها، حتى الزمن، لا ينال منه، بعد ثورة يناير، تراجع مبارك من بورصة النكات تماما، بعد أن كان من نجوم الصف الأول، وجاء الإخوان والسلفيون على رأس القائمة، كلما ربحوا استحقاقا انتخابيا، كلما أوسعناهم، نكتا، وسخرية، واستهزاء، وبرامج ساخرة، وكاريكاتيرات، إلخ.
تقول الأسطورة، إن المصري بدأ رحلته مع السخرية السوداء، حينما كان يحمل حجارة الأهرامات، كانوا يسخرون من أنفسهم، ومن عدم قدرتهم أحيانا على مواصلة البناء، ومن اضطرارهم للمواصلة رغما عنهم، ومن يومها ولا يكف المصري عن الصراخ سخرية، ونكاتا.
والآن، نسخر من داعش، ذبحوا 21 مصريا أمام العالم، دمروا نفسياتنا جميعا، قضوا على جزء كبير من الثورة السورية، سقطت الموصل في العراق، هم الآن في ليبيا، تهديد حقيقي لنا، ضربناهم بالطائرات، كتبنا عنهم، تحليلات، مقالات، ناقشنا الظاهرة في الإعلام، تصدى لها علماء الأزهر، تصدى لها السلفيون (على سبيل الجد لا النكتة)، أخيرا منح الأزهر ترخيصا للخطباء السلفيين الممنوعين من الخطابة لكي يحارب بهم داعش، حدث بالفعل، المصريون ظاهرة في السخرية كما أخبرتك، كل هذا وأكثر، لم يفلح.
لم يقتنع المصريون سوى بعجزهم، داعش تهديد حقيقي، لم نشعر رغم كل التطبيل والتهليل والتدجيل الإعلامي أننا في حرب، خذلتنا دراسات الاجتماع السياسي، وطنطنات مدعي المعرفة بالحركات الإسلامية، ومماحكات الخبراء والمتخصصين الذين اعتبروها امتدادا وتطورا نوعيا للسلفية الجهادية، ولم يخبرونا متى وأين وكيف، قدر ما أخبرونا عن أنفسهم بكل ما يجعلنا نوقن بأنهم أهم شيء في الكون بعد الكهرباء.
داعش عقدة، الإمكانات، التسليح، الإخراج، المونتاج، التقنية، الأموال، ملامسة الوجدان الشعبي المأزوم، استغلال الخامة التراثية الإسلامية في حياكة ثوب غربي يتناسب وهذا البؤس الذي يعيش في العالم بأسره في الزمن الأمريكي البغيض، لغة العصر، حين تتمرد على حروفها، داعش، فماذا نفعل؟ إنها السخرية، وكفى.
فيديوهات السخرية من
صليل الصوارم على مواقع التواصل الاجتماعي ليست رسالة للدواعش قدر ما هي رسالة للسيسي، وجيشه الإعلامي، وجوقة المطبلاتية، والأراجوزات، وطابور المتفيهقين من الصحافيين، والأكاديميين، وزبائن التوك شو، كلكم فاشلون، لم ينجح أحد، الرقص في مواجهة الذبح، طالما لم نجد شيئا آخر، والمجد للعبث.