مع رحيل
الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود اتجهت أقلام كثيرة إلى الحديث عن السلاسة التي تمّ من خلالها نقل السلطة، ثم التركيز أكثر على الأبعاد التي حملها تعيين الأمير محمد بن نايف ولياً لولي العهد الأمير مقرن. وكان الدافع وراء قراءة هذا المتغيّر هو تحديد اتجاه تشكل السلطة
السعودية للسنوات القادمة.
وقد اعتبر أغلب المحللين أن العمود الفقري للسلطة السعودية أصبح بيد السديرية من عائلة آل سعود. ولا سيما بعد أن حمل تعيين الرئيس الجديد للحرس الوطني كفاً ليد الأمير متعب ابن الملك الراحل وإن بقي وزيراً لهذا الحرس حتى الآن.
وذهب أغلب الخبراء والمحللين إلى التركيز على الوضع الداخلي للحكم في السعودية معتبرين أن السياسة الخارجية للسعودية متفق عليها بين مختلف مراكز القوى. ومن ثم ليس هنالك من انشغال في هذا الموضوع. وذلك بالرغم من أن المتغيّرات العاصفة التي تجتاح العالم والأقطار العربية والإسلامية راحت تُخرج كل سياسات الدول، بهذا القدر أو ذاك، من نمطها التقليدي. ومع ذلك يظل من الممكن التمييز من جهة السياسة الخارجية بين عهد وعهد في السعودية.
فعلى سبيل المثال، ثمة فارق واضح في السياسة الخارجية السعودية بين عهدَيْ الملك فيصل والملك فهد. ولكن الفارق الأشدّ بروزاً كان في عهد الملك عبد الله نفسه لا سيما من ناحية الموقف من القضية الفلسطينية والمقاومة وحصار قطاع غزة والعلاقات بالكيان الصهيوني أو الموقف إزاء حروب العدوان الصهيوني، في عهده، على لبنان 2006 وقطاع غزة 2008/ 2009 و2012 و2014.
وقبل تبيان ما تقدّم فإن من الإنصاف التمييز بين الدور الذي لعبه الأمير عبد الله وهو ولي للعهد ما بين 1994 و2000، ودوره عندما أصبح ملكاً، أي عندما كان يمارس عملياً صلاحيات الملك فهد في السنوات الأربع الأخيرة من حياته بين 2001 – 2005. فما بين السنوات 1994 و2000 تشكل محور ثلاثي سعودي – سوري –
مصري لعب دوراً إيجابياً هاماً جداً في معارضة سياسات الرئيس الأمريكي بيل كلينتون ورابين وبيريز ونتنياهو وباراك خلال تلك الفترة.
لقد تشكل هذا المحور في خريف 1994 رداً على اتفاق أوسلو 1993، ومعاهدة وادي عربة 1994. ودخل صراعات ضارية ضدّ المؤتمر العالمي الاقتصادي للشرق الأوسط، وما سمّي بسياسات التطبيع أو الاستفراد بكل دولة عربية على حدة بالنسبة للتسوية أو تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني.
لم يقم هذا المحور على أساس الرفض المبدئي لعملية التسوية. بل كانت الدول الثلاث قد شاركت في مؤتمر مدريد، وما انبثق عنه من مفاوضات. ولكن السياسة الأمريكية تغيّرت بعد اتفاق أوسلو. وأخذت تتبنى سياسة الاستفراد بكل دولة عربية على حدة، فرَعَت معاهدة وادي عربة خريف 1994. الأمر الذي دفع الدول الثلاث مصر وسوريا والسعودية لعقد قمة ثلاثية في الإسكندرية خريف 1994 للرد على ذلك.
هذا المحور لعب دوراً أساسياً في تبني المسار الثنائي المشترك السوري – اللبناني، وفي استعادة انحياز ياسر عرفات لمصر، وفي تغطية المقاومة في لبنان من خلال
سوريا، وفي إحباط المؤتمرات الاقتصادية العالمية، للشرق الأوسط ودفنها في مؤتمر الدوحة.
صحيح أن السياسة السعودية ما بين 1994-2000 تُحسَبُ للملك فهد في نهاية المطاف، أكثر من ولي عهده. ولكن لا مفرّ من أن يحفظ للملك عبد الله عندما كان ولياً للعهد، في أثناء ذلك، دوره النشط والمشهود له، والذي يدخل في إطار تعزيز المحور الثلاثي مصر – السعودية – سوريا.
على أن دور ولي العهد الأمير عبد الله تعاظم بعد العام 2001 مع تدهور صحة الملك فهد وعجزه شبه التام عن إدارة شؤون المملكة. ولهذا يمكن أن يؤرخ لبدء عهده مع مبادرة السلام التي أعلنها عبر الصحفي الأمريكي- الصهيوني توماس فريدمان، وحوّلها إلى "مبادرة السلام العربية" من خلال مؤتمر القمة العربية في بيروت 2002.
كانت السياسة الأمريكية بعد 2001 قد تبنت استراتيجية عسكرية عالمية لفرض "أحادية القطبية" التي تزعزعت في عهد بيل كلينتون. فشنت حرباً على أفغانستان 2001 ثم الحرب 2002 على العراق واحتلالها، والإعلان عن تبني سياسة إعادة بناء الشرق الأوسط (الكبير الجديد).
ففي هذه المرحلة انحنت كل من مصر والسعودية للهجمة الأمريكية. وتمّ التخلي عن سوريا، ما أدّى إلى إعادة اصطفاف جديد للمحاور نجم عنه تشكل محور المقاومة والممانعة: إيران وسوريا والمقاومتان اللبنانية والفلسطينية والمعارضات العربية. وانتقلت سياسة قطر للاقتراب أكثر من العراق قبل احتلاله عام 2002، كما من محور المقاومة والممانعة، وكذلك تدرّجت تركيا بالاتجاه نفسه.
لقد أحدثت مبادرة السلام العربية تغييراً استراتيجياً في الموقف السعودي التقليدي منذ تأسيس المملكة السعودية. وذلك من خلال التعهد بالاعتراف العربي بدولة الكيان الصهيوني "إسرائيل" إذا ما قامت الدولة الفلسطينية في حدود 1967 وتم الانسحاب من الجولان. وكان ذلك تبرعاً مجانياً رحبت به الحكومات الصهيونية من جهة وتحفظت على شرطيه من جهة أخرى.
إن مبادرة الملك عبد الله للسلام مع الكيان الصهيوني شكلت نقطة انعطاف في السياسة الخارجية السعودية فضلاً عن توريطها لقمة بيروت 2002 لتبنيها. أما ما بعدها من مواقف اتخذها محور الاعتدال العربي، والسعودية ومصر في المقدمة، فقد شكلت أيضاً تغييراً سلبياً لم يسبق له مثيل في تاريخ السعودية إزاء التعامل مع الحروب العدوانية الصهيونية.
فعلى سبيل المثال ألقيت مسؤولية العدوان الصهيوني في حرب تموز/ يوليو 2006 على حزب الله، وكذلك مسؤولية حرب 2008/ 2009 في قطاع غزة على حماس. وقد امتنع محور الاعتدال العربي بقيادة حسني مبارك – الملك عبد الله بن عبد العزيز، عن الدعوة إلى عقد مؤتمر قمة عربي في الحالتين لإدانة العدوان ودعم الشعبين اللبناني والفلسطيني كما كان يحدث سابقاً. ثم عبَّرت عما هو أشد هولاً، كل من مصر والسعودية في الموقف من العدوان الصهيوني على قطاع غزة 2014 إذ دامت الحرب 51 يوماً من دون أن تعقد قمة عربية، وقد استمرّ حصار القطاع بإغلاق معبر رفح ولم يزل. وأصبح إعمار قطاع غزة مرهوناً بتسليم سلاح المقاومة المنتصرة لسلطة رام الله وأجهزتها الأمنية. وقد أكد على ذلك الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في مؤتمر الدول المانحة في القاهرة في ظل أقوى تحالف مع السعودية.
فالخطيئة التي ابتدأت بمشروع مبادرة السلام العربية، وما تلاها من المواقف آنفة الذكر ومن علاقات بالكيان الصهيوني تَجبّ كل ما يمكن أن يُقال حول إنجازات حققها الملك الراحل في مجالات التعليم والجامعات ومراكز البحث أو مشاركة المرأة في الحياة السياسية ومجالات أخرى.
هذا بالطبع بالنسبة إلى كل من لا يزال يعتبر قضية فلسطين قضية العرب والمسلمين الأولى، وإلى كل من لا يزال يعتبر الكيان الصهيوني هو العدو الأول للأمة، فكيف يمكن أن يُصار إلى التعهد بالاعتراف بدولة الكيان الصهيوني مقابل انسحابها من أراضٍ احتلتها في عدوان 1967، إذ إن في هذا مكافأة للاحتلال.
ويكفي أن نتذكر لاءات القمة العربية في الخرطوم وكان الملك فيصل بن عبد العزيز، في مقدمة من، صاغوها وهي لا مفاوضات ولا صلح ولا اعتراف.