يستهدف النظام السوري منذ اندلاع الثورة عام 2011
المشافي الميدانية التي باتت بديلاً عن المستشفيات الحكومية أو الخاصة والمراكز الصحية التي تعرضت للدمار، حيث وجد النظام في
الأطباء القائمين عليها خطراً حقيقياً، فبات يلصق بهم التهم تباعاً، أبرزها معالجة "الإرهابيين" أو "المجموعات المسلحة"، رغم أن الأطفال كانوا أغلب زائري هذه المستشفيات الميدانية.
وواجهت المشافي الميدانية التي كانت تقوم على مواد بدائية جداً لعلاج الجرحى صعوبات بالغة بسبب استهدافها بكافة أنواع الأسلحة، حتى باتت تقام تحت الأرض وفي الملاجئ، وصارت تعاني من شح كبير في المواد الطبية مع صعوبة إيصالها في ظل ازدياد عدد الجرحى.
يقول سعيد، وهو أحد المسعفين في المشفى الميداني في حي برزة، في حديث لـ"عربي21"، إنه لم يكن يملك أي خبرة في المجال الطبي، فهو متخرج أصلا في كلية الهندسة الميكانيكية. لكن عندما قُصف حي برزة بالصواريخ لأول مرة وجد نفسه يُسعف الناس هناك، ويسارع لإنقاذهم حتى خرج المدنيون من الحي. ويوضح أنه ظل مرابطاً في المشفى الذي لم يكن به أي طبيب مختص، حيث إن الطبيب المختص الوحيد كان حينها من حي القابون المجاور يتنقل بين الحين والآخر بحسب تنقل المجازر.
ومع امتداد فترة الحصار على الحي، صار سعيد يخيط جراح المصابين ويشرف على علاجهم بشكل مباشر، حتى وصل به الأمر يوماً لخياطة يد طفل كانت قد انفجرت قنبلة فيها عند لعبه بها.
يبرر سعيد هذا بأنه "حتى وإن لم تكن تملك الخبرة الكافية، لا يمكنك أن ترى هذه الأرواح ترتعش أمامك وأنت تقف مكتوف اليدين، الجدير بك فعل أي شيء".
ووثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل 436 شخصاً من الكوادر الطبية في
سوريا، واعتقل 2730 شخصاً بينهم 850 طبيباً، فيما قتل 51 من هذه الكوادر في سجون النظام بينهم 35 طبيباً. وتعرضت 225 منشأة طبية للدمار، بشكل كامل أو جزئي، في حين تحولت أغلب المشافي الحكومية إلى ثكنات عسكرية بل إلى فروع أمنية لممارسة عمليات التعذيب على المعتقلين الذين يتم نقلهم إليها، كمشفى تشرين العسكري.
وسبّب الاستهداف تضييقاً كبيراً على المشافي الميدانية، وزاد من حملها، ما ترك مئات الجرحى يموتون بأبسط مرض أو إصابة، مع أنه لو تم علاجهم بمكان آخر لربما كتب لهم الشفاء.
وفي ظل هذه الأوضاع، آثر الكثير من الأطباء النزوح خارج البلاد، فاسم طبيب بحد ذاته بات تهمة وجريمة في سوريا، وخصوصا إن كان مدوناً في بطاقته الشخصية أنه من منطقة ثائرة، بينما لم تسنح الفرصة لكثيرين بالسفر خارج سوريا، إما للأعباء المادية المترتبة على السفر أو لعدم وجود طرق آمنة للهرب عبرها.
محمد بشير عرب، صخر حلاق، أسامة البارودي، أنس القطيفاني، وأطباء كثر غيبتهم المعتقلات منذ بداية الأحداث، بينما وُجد البعض ميتاً مرمياً على جوانب الطرقات بعد تعرضه للتعذيب، كالطبيب صخر حلاق.
وفي ذات السياق، لقي الطبيب أنس القطيفاني حتفه في سجن صيدنايا ذي السمعة السيئة جداً، والطبيب القطيفاني من مواليد دمشق 1973 لأم دمشقية وأب من دوما، وكان من العائلات ميسورة الحال في دمشق، حيث كان والده من كبار تجار دمشق.
درس القطيفاني الطب في جامعة دمشق، وتخرج فيها باختصاص عظمية، ثم سافر إلى بريطانيا لنيل شهادة الماجستير في إدارة المشافي، بعدها عاد إلى دمشق، ومارس الطب لفترة قصيرة، لكنه ما لبث أن انتقل إلى الوسط التجاري، حيث أسس واحدة من أهم شركات المعلوماتية آنذاك "Newwave"، إلى جانب ذلك كان له نشاط كبير في الجمعيات الخيرية والإغاثية، لا سيما الجمعية الخيرية في مدينة دوما التي أصبح عضواً في إدارتها.
وكان القطيفاني قد قدم أطروحات إصلاحية وكتبت عدة مقالات في موقع "سيريا نيوز" قبل الثورة، ومع اندلاع الأحداث في سوريا في آذار/ مارس 2011، اعتقلت زوجته إثر المظاهرة الأولى في سوق الحميدية في دمشق في 15 آذار/ مارس 2011، ثم أفرج عنها. بعدها توجه الطبيب إلى الإسهام الحقيقي في الثورة، حيث بدأ بدعم الأنشطة السلمية ودعم المظاهرات وتنظيمها بين دوما ودمشق.
واهتم بشكل كبير في المجال الطبي وقدم له الدعم الكافي، حتى أنه قرر تخفيض نشاطه التجاري وتحويله لصالح الثورة، إلى أن تم توقيف عمله التجاري الخاص بشكل كامل قبل اعتقاله بفترة بسيطة.
سافر بعدها إلى لبنان وقضى بعض الوقت هناك، وفي الشهر الثامن من عام 2012 تم توقيفه واقتياده إلى فرع المخابرات الجوية، وهناك التقى بأحد أقربائه، محمد منير الفقير، الذي يروي هذه الأحداث، وكان قد تعرض للتعذيب الشديد هناك، حيث كانت تهمته الوحيدة أنه طبيب ويعالج "الإرهابيين".
ومن ثم تم تكليفه بمعالجة مرضى الجماعية الخامسة وهناك أصبح مسؤولاً عن الجماعية في المهجع. وعندما اجتاح الجرب السجن الجديد في المخابرات الجوية طُلب منه ومن الدكتور عبد السلام عيد الذي لا يزال قيد الاعتقال حتى الآن معالجة المصابين هناك عن طريق مضادات طبية وأدوات مستعملة عشرات المرات ومعقمات ممدودة بالماء مما يفقدها فائدتها.
وكان للطبيب أياد بيضاء على كثير من المعتقلين، وكان له نشاط في اتحاد تنسيقية أطباء دمشق مع الدكتور أسامة البارودي الذي قتل تحت التعذيب في صيدنايا. ثم بدأ التعب والمرض ينهش جسده، وبات في
صحة سيئة، مع تعب وهزال دائمين، وتُرك في هذه الظروف إلى أن تم نقله إلى سجن صيدنايا، وهناك لقي حتفه ليصل خبر مقتله إلى أهله قبل يومين.