جدلية الثورة والإصلاح من خلال النظام يبدو أنها لا تزال حاضرة بل تحتاج لمزيد من العرض والنقاش؛ فالثورات العربية التي انطلقت من تونس في 17 ديسمبر 2010 وتداعياتها الواضحة من خلال الثورة المضادة قد شكلت دافعاً لدراسة تلك الجدلية من جديد ولكن على بساط الواقعية التي تعني أن فرص التطبيق باتت أكبر ومستقبل الانتشار أصبح أوضح خاصة عندما تعالت الأصوات من أصحاب تجربة الحكم بعد الثورة بقولهم: “أخطأنا حين لم نتبع المسار الثوري واتبعنا المنهج الإصلاحي”.
الثورة الفرنسية (1789-1799م) التي شكلت نموذجاً للإصلاح الشامل، فقد ألغت الثورة النظام الملكي وأرست الحقوق المتساوية بين الناس في الحرية والمواطنة.
كما أن الثورة البلشفية الشيوعية (1917م) اعتبرت منهجاً للإصلاح -بحسب اعتقادها- فهي بنت نظاماً طبقياً جديداً على أنقاض نظام القيصر الحاكم في روسيا آنذاك.
في جنوب أفريقيا لم يكن يرى نلسون مانديلا زعيم حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، أن ثورته التي قضى في سبيلها 27 عاماً في السجن يمكن أن تنجح بدون إنهاء نظام التمييز العنصري ضد السود، وذلك بلا شك تبعه إصلاح شامل لنظام الدولة وانعكاس واضح على كافة مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الدولة حيث كانت أهداف ثورة الحزب الثلاثة هي محاربة الفقر وبناء دولة موحدة ومجتمع غير عنصري.
وأقرب من ذلك بكثير عام 1979م، قامت الثورة الإيرانية الدينية على نظام الشاه العلماني (1941-1979م)؛ حيث ثار رجال الدين ضد استبداد النظام الملكي العلماني، فأصلحوا نظام الحكم وساسوا الناس بشكل ثوري كامل تجاوزا فيه حقبة الملكية إلى ولاية الفقيه وأعلنوا الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد حكم الشاه 38 عاماً التغريبي والمتصالح بل المتحالف مع عدو الأمة إسرائيل.
"ما حدث منتصف يونيو 2007 في
غزة شكل حالة من حالات الثورة الإصلاحية بعد أن فشل الإصلاح من خلال شرعية الصندوق"
وقبل كل ذلك يزخر تراثنا الإسلامي بقصص الأنبياء المصلحين، الذين ما جاؤوا لتعليم الناس عبادات روحية فقط بل كانوا رواد إصلاح وقادة ثورة؛ طالبوا بإصلاح الاقتصاد ونظام الحكم كما قاموا بثورة اجتماعية على العادات السلبية السائدة سواءً بسواء.
فالقرآن هو من أرسى قانون التدافع بما يحمله من ثورة إصلاحية تحمل الخير لكل الناس. للعباد في صوامعهم والذاكرين في خلواتهم كما تحمل الخير في نواصي خيل المجاهدين: “وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ”.
وما حدث منتصف يونيو 2007 في غزة شكل حالة من حالات الثورة الإصلاحية بعد أن فشل الإصلاح من خلال شرعية الصندوق.
فبعد أن حازت حركة حماس على ثقة الشعب
الفلسطيني في انتخابات المجلس التشريعي (25 يناير 2006) شهد لها البعيد قبل القريب بالنزاهة والمصداقية بما مثلته من حرية الاختيار والتصويت؛ شكلت حماس الحكومة العاشرة نهاية مارس 2007 في ظل رفض كافة الفصائل والأحزاب الفلسطينية للمشاركة فيها، ورغم ذلك حازت تلك الحكومة ثقة مريحة من البرلمان، إلاّ أنها جوبهت بحملة شرسة من الحصار الإسرائيلي والدولي تزامن مع حمى سحب الصلاحيات من الوزارات إلى الرئاسة ومنظمة التحرير التي يرأسهما معاً رئيس حركة فتح محمود عباس. مما دفع الحركة لثورة لحماية شرعيتها البرلمانية والدستورية من أجل تنفيذ برنامجها الإصلاحي الذي منحه الشعب الفلسطيني ثقته وفوضه المجلس التشريعي لتطبيقه من خلال الحكومة.
الثورة تهدف إلى حرية الإنسان وبناء الدولة على أسس جديدة وصحيحة، وعلى ذلك فالإصلاح منهج لا بد منه ولكنه لا يصح إلاّ بتغيير كل نظام قامت ضده الثورة أو وقف في وجهها سابقاً سواء كان نظاماً إدارياً أو قانونياً وبالضرورة سياسياً. فلا ثورة بدون منهج إصلاحي ولا إصلاح بلا ثورة تغير الواقع وتزيل أسبابه.