خرجت الأسرة من "
دوما" بعد أن وجدت أن لا حل في الأفق المنظور، وأن الفرج الذي تنتظره منذ ثلاث سنوات أو يزيد ليس بقريب، وبعد أن تجاوزت الأسرة حاجز الجيش الحر، الذي يبعد عن حاجز يليه لجيش النظام مسافة لا تزيد عن عشرات الأمتار ضمن حالة لا يمكن وصفها إلا بــ"الهدنة" سار أفرادها باتجاه حاجز النظام، الذي سمح للعائلة بالمغادرة بعد أن بدا واضحاً وضع الأب الصحي المتردي، إلا أن شبيحة حاجز النظام لم يسمحوا لـ"مالك" وهو الابن الأكبر في هذه العائلة بالخروج، وطلبوا أن يسلم أي قطعة سلاح لهم مقابل أن يغادر.
ومن أين يحصل مالك على السلاح، فهو شاب غير مقاتل، مثله مثل آلاف المدنيين في دوما، الذين يعيشون تحت رحمة
الحصار والجوع والفقر، وكيف سيحمل معه قطعة سلاح ويخرج لتكون إدانة كاملة له من قبل عناصر النظام الذين سيلقون القبض عليه حينها، ما اضطره للعودة والبقاء في "دوما".
سافرت العائلة إلى لبنان لإجراء عملية قلب مفتوح لـ"أبو مالك" في أحد مستشفيات بيروت، وكانت الرحلة سهلة للظرف الإنساني الذي تتميز به العائلة عن غيرها، وبعدها أجرى الأب عدة عمليات جراحية، ومازال في المستشفى حتى اللحظة دون بوادر استقرار في حالته.
أما الابنة "منال" وزوجها، فقد غادرا إلى تركيا على أمل أن يحصلا على ظروف معيشية أفضل، بعد أن سمعا عن مساعدات وتسهيلات تقدمها الحكومة التركية للسوريين.
لم تكن الأمور أفضل بكثير في تركيا، فما يجنيه حسام، زوج منال، من مال بالكاد يكفي ثمن الطعام وأجرة البيت، بينما تتكدس الفواتير في مستشفيات بيروت، ولا يوجد من يدفعها أو يقدم أي مساعدة بذلك، لدرجة أن المستشفى الآن يحتجز أبا مالك ولا يخرجه حتى يتم دفع المبالغ الضخمة المترتبة التي تبلغ أربعة آلاف وخمسمائة دولار.
في "نيزيب" التركية التقينا منال لتروي السيدة "الدومانية" قصتها. تقول في حديث لـ"عربي21": "في دوما عشنا ظروفاً من الرعب، حيث كنت أدخل وأخرج منها للحصول على أدوية لوالدي عندما كنا هناك، كان حاجز الحر يطلب مني في كل مرة أن ألتقط صورة لضابط الحاجز، بينما كان ضابط الحاجز يريد أن يعرف مني معلومات عن عدد المسلحين وأماكنهم، وكنت أنجو من هذا التحقيق وهذه المطالب بصعوبة بالغة، ووجدت أن لا حل سوى المغادرة".
وتضيف: "العلاج في لبنان يكلف أموالاً طائلة ومبالغ خيالية، بينما هنا في تركيا شبه مجاني، إلا أن والدي ووالدتي لا يمتلكان جوازات سفر، وبالتالي لن نستطيع نقل والدي إلى تركيا، والمبالغ المترتبة علينا لا بد من دفعها، وما زلنا نبحث عن حل لذلك".
تشرح السيدة منال ما يحدث في دوما، وتؤكد أن المدنيين هناك يعانون الجوع والفقر والبؤس، كما تحكي لنا عن حالات كثيرة من استغلال المدنيين والتحكم بهم من خلال لقمة عيشهم، وذلك من قبل بعض عناصر الحر الجشعين، حيث يدخل هؤلاء مادة الأرز مثلاً بسعر لا يتجاوز مائتي ليرة سورية إلى دوما، ويقومون ببيعه للأهالي بأسعار تزيد عشرة أضعاف أحياناً، والأهالي مضطرون للشراء، كما لا يمكن لغير هؤلاء العناصر القيام بهذه التجارة، فمن يقترب من سوق تهريب المواد الغذائية سرعان ما ستوجه له تهمة "شبيح" و"متعامل مع النظام".
أما حول الحل الذي يتوفر أمام الأسرة من أجل دفع فواتير المستشفى، فهو حل وحيد لا بديل عنه؛ إذ تمتلك العائلة سيارتين في دوما، ولا بد من إخراج السيارتين وبيعهما لتوفير المبلغ الكبير المطلوب، لأن بيعهما داخل المدينة لن يؤمن ربع المبلغ، فالأسعار منخفضة جداً، فأن تكون السيارة نظامية وتحمل أوراقاً أمر غير مهم.
يحاول مالك مراراً أن يخرج السيارتين من المدينة دون فائدة، فالحر يرفض ذلك كما يرفضه النظام أيضاً، وبعد محاولات جاهدة استطاع الشاب الحصول على ورقة تسمح له بإخراج السيارتين من دوما إلى مناطق النظام لبيعهما؛ إذ أعطاه حاجز النظام الموافقة على ذلك بعد أن أتى بإثباتات حول مرض والده وبقائه في المستشفى، وأتى بفواتير ومستندات تثبت أن الوالد محتجز لعدم دفع الفواتير المترتبة.
عاد الشاب إلى دوما سعيداً بالإنجاز الذي حققه والذي سيحل مشكلة الأسرة، وعندما أراد إخراج سيارتي أسرته من دوما، رفض حاجز الجيش الحر السماح له بذلك رفضاً قاطعاً، بل أخبروه هذه المرة أنهم لن يسمحوا له هو بالمغادرة أيضاً. فحسب وجهة نظرهم، على الشبان أن يبقوا داخل المدينة للدفاع عنها وقت الحاجة، ولا يجوز لهم مغادرتها. وبعد توسل طويل ومحاولات لإقناعهم بمرض والده واضطراره لهذا الأمر، بل ووعوده بأن يعود هو بعد بيع السيارتين وإرسال المال إلى أسرته في بيروت، طلبوا منه طلباً قد يكون بالنسبة إليه أصعب من كل ما مر به ومن كل ما حملته القصة: "لإخراج السيارتين لا بد لك من أن تحصل على ورقة موقعة من قائد جيش الإسلام الشيخ زهران علوش".